​​​​​​​«فاتحة للعين» قصة قصيرة للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف
الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

- لا تذهب للمقابر.. تكفي الفاتحة من هنا.

قالت أمي بصوت مخنوق يماثل نفس الصوت الذي كنت أسمعه حزناً على أبي، أطرقت ومسحت على رأس رؤى ابنتي وذهبت إلى الغفران، بدأ الشيخ تكبيرة الإحرام فله صوت قادر على دخول الشارد والداني، قلت لصديق يعيش للصلاة:

لا توجد ضرورة لإطفاء أنوار المسجد ساعة صلاة العشاء، قد يضيف ذلك مشاعر الخشوع لكنه يوحي بارتخاء كل شيء ولابد من التيقظ في حضرة الله.

أوصاني أن أقول ذلك لعامل الإضاءة الذي ذكرني بعامل إضاءة مسرح الشركة، في عصبية وشذر نظر إليَّ فتراجعت وأسلمت نفسي لما يريده، فأنا أعرف عصبية مرتادي المسجد بعد الستين، دخلت صلاتي وجاهدت ألا أغفو أو أسرح، دائماً كنت أراه عن يميني أو يساري، أمامي أو خلفي، ساعة أبحث عنه تقع عيناي عليه دون جهد، إحساس مشترك يجمعنا في أي مكان، أجد نفسي تأخذني إليه ونفسه تأخذه إليَّ، رفعت بصري عن موضع السجود، أبحث عنه يميناً أو يساراً، أماماً أو خلفاً، لم أجده.. لا وجدته كان واقفاً في الأمام أخذتني عيناني إلى مكانه تحديداً، تتجمع صورته شيئاً فشيئاً، أعصر عصب عيني، تصبح الصورة أكثر وضوحاً من الخلف، الشعر المجعد قليلاً، الجسم الضئيل الظهر المفرود، الشرز البني والبنطال البني الذي طالما طلبت منه أن يغيرهما رغم أن أخاه أوصاني أن أنصحه بشراء ملابس جديدة بدلاً من هذه الكتب التافهة التي لا تفيد والتي لن يستطيع أن يقرأ نصفها.

-        أعد بالشراء.. لكن لأجلك أنت.

تهللت فرحاً، لكنه اشترى نفس اللون، كان حريصاً أن يكون معي في أبهي حلة، فهو يعرف أن بنات مدرسة المحلة الثانوية يقابلننا في شارع البحر، وأحياناً يلقين علينا التحية ويبتسمن في خبث، واللاتي يعرفنه يقبلنه كعروس احتياطي، إذا استبد بهن البعد وضل العروس طريقه، يهز رأسه بطريقة ظريفة تُطبع في ذهنك، هز رأسه الذي يقف أمامي في الصف الهزة نفسها، ارتاحت نفسي وهدأ قلبي، اطمأنت روحى ،فكم تحدث معجزات، لو أنني في صلاة نافلة لسلمت، انتهت الركعات الأربع سريعاً دون أن يعلق بذهني دعاء أو أستمتع بآية أو أتدبر معنى يأخذني إلى ملكوت السموات والأرض، مررت من أمام بعض ممن لم يكملوا صلاتهم بعد، كدت أقع فاستندت على راكع، وصلت إليه ربت على ظهره، قبل أن يلتفت ارتديت نظارتي، نظر لي، تعدلت الصورة بشكل مفزع، لم أعرفه، اضطربت أوصالي، ارتجف قلبي.

-        أهلاً وسهلاً.. أي خدمة.

خلعت نظارتي بتثاقل شديد، وأطرافي ترتجف وتراجعت إلى الوراء، أضاء عامل الإضاءة أنواره التي أغرقت وأفرغت عليَّ إحساساً لم أستطع تحديده، أغمضت عيني كي أحتفظ بصورته ملتصقة بها، قررت أن أتخلى عن نظارتي لعلي أراه- على الأقل – هنا.