يوستاين جاردر: كتبت «عالم صوفي» فى ثلاثةِ أشهر!

جوستاين غاردر
جوستاين غاردر

وُلد جوستاين غاردر فى 8 أغسطس 1952 فى أوسلو، وبرز ككاتبٍ غزير الإنتاج، وتميَّز بين النخبة الأدبية الأوروبية برؤيته العميقة للحالة الإنسانية وقدرته على نسج المفاهيم الفلسفية المعقدة فى رواياتٍ آسرة. لم تُثِر أعماله إعجاب القراء من الشباب الذين يغامرون بدخول عالم الأدب فحسب، بل شجَّعت المثقفين المتمرسين الذين يسعون إلى إعادة النظر فى المفاهيم الفلسفية الخالدة على التفكير بعمق فى أهم أسئلة الحياة أيضًا.
اكتسب جاردر شهرة عالمية لأول مرة بسبب روايته الرائدة «عالم صوفى»، وهى تحفة فكرية تنسج الفلسفة بسلاسة فى قصة مذهلة عن فتاة فى مرحلة البلوغ. نُشرت هذه الرواية عام 1991، وأحدثت صدى كبيراً عالميًا، إذ قدمت أفكارًا فلسفية بطريقة لاقت إعجاباً من جمهور واسع.
طوال حياته المهنية، شكك جاردر بلاً خوفً فى العلاقة بين العلم والروحانية، واستكشف ديناميكيات الحب والفقد، وتعمق فى ألغاز الكون، وتحدى الحكمة التقليدية برواياته المُحفزة للفكر، وهو لا يفشل أبدًا فى إثارة النقاش والفضول الفكرى سواء كان ذلك من خلال رواياته أو أعماله غير الروائية.

قد أشارك بعض القراء الاعتقاد بأن اسم صوفى، بطلة روايتك الأشهر، «عالم صوفى»، مشتق لغويًا من الأصل اليونانى لكلمة فلسفة، علم دراسة الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود والمعرفة والمنطق وقيمة الأشياء، وينسحب هذا على روايتك التى تطرح سؤالين أساسيين للوجود فى فصلها الأول، تنطلق منهما صوفى فى رحلتها لتعلم الفلسفة: من أنت؟ وكيف نشأ العالم؟

هل الفلسفة شىء يُمكننا تعلُمه؟ أم أننا قد نتعلم التفكير بشكل فلسفى فحسب فنعيد النظر لعالمنا عبر هذه العدسة، ومن ثَم قد نعيد بناء هذا العالم، كما فعل كلٌ من صوفى وألبرتو فى نهاية الرواية بالانقلاب على الكاتب ألبرت والخروج من سيطرة خياله؟

اقرأ أيضاً  | الحفاظ على التراث في مكتبة الإسكندرية

أعتقد أنك كى تصير فيلسوفًا بشكل عام، سواء بدراسة الفلسفة وتعلُمها أو باستخدام التعبير والتعريف المجرد للفلسفة بأنها فن طرح الأسئلة، فإن الشىء الوحيد الذى تحتاجه هو الفضول والرغبة الحقيقية فى المعرفة.



نشأت الفلسفة اليونانية حين تساءل الإنسان عن وجوده. أعنى، منذ أن كنت طفلاً صغيرًا جدًا، كنت مندهشًا من وجودى، ووجود العالم الذى أنا جزء منه بأكمله. لذا، أعتقد أن الأمر يتعلق بشىء نتقاسمه جميعًا، وهو الفضول.

يسود تصور بأن الفلسفة موضوع صعب، مقصور على فئة معينة، ومُخصص للباحثين الأكاديميين. فى «عالم صوفى» أردت تحدى هذه الفكرة وكسر الحواجز الموجودة بين الفلسفة والجمهور العام. من خلال تقديم تاريخ الفلسفة فى شكل سردى، استهدفتُ ربط الفلسفة بمناحى الحياة، وجعلها مفهومة للقراء بغض النظر عن معرفتهم السابقة بها.



منذ البداية، سعيت إلى غمر القراء فى عالم الفلسفة، مستخدمًا شخصية صوفى كوعاءٍ لتقديم فتراتٍ زمنية مختلفة وأفكار فلسفية. وبينما تتعمق فى دروسها مع ألبرتو نوكس الغامض، لا تدرك صوفى أن وجودها جزء من واقع أكبر متشابك فحسب، بل إن وجودها يتأثر أيضًا بتصوراتها وتجاربها الفردية.

حاولت التأكيد على أن الواقع ليس ثابتًا ولا موضوعيًا، بل يتشكل من خلال تجارب وتفسيرات ذاتية. إن شكوك صوفى المتزايدة حول العالم من حولها تعكس شكوك القارئ المحُتملة عندما يواجه الألغاز الفلسفية. تتصارع الفتاة مع هويتها كشخص ودورها فى المجتمع، وتدرك فى النهاية أن وجودها فريد ومتشابك مع نسيج بشرى أكبر. هذه الرحلة بمثابة دعوة للقراء للانخراط فى التأمل واحتضان الوعى الذاتى العميق.

إذن، ترى أن الفلسفة موجودة بداخلنا ويمكننا تعزيزها بالمداومة على ممارستها وطرح الأسئلة؟
نعم، أعتقد أنها جزء من تكويننا جميعًا. يمكنك رؤية شرارتها فى عينىّ الطفل الذى يندهش أثناء مراقبته لشمعة ورغبته فى أن يلمسها. لذا، أعتقد أننا نكون فلاسفة قبل أن نتعلم التفكير.

هذا ما جعلك تقرر أن تكون صوفى فتاة صغيرة؟ كقارئة، أظن أن ألبرتو اختار صوفى لتلقى الرسائل لأنها لا تكُف عن التساؤل بالأساس. تحمل أسئلة كبرى صغيرة فى رأسها المراهق جعلتها مؤهلة لتلقى رسائل التنوير والمعرفة الفلسفية.

نعم، أظن ذلك. أذكر أننى أيضًا اكتشفت فجأة، حين كنت فى الثانية عشرة، أننى جزء من أحجية مُربِكة. حينها توجهتُ إلى والدَى ومعلمِى وقلت: «ألا ترون أن وجود العالم ووجودنا أمر غريب وعجيب؟» ثم تلقيت إجابات من نوعية «فعلًا! ليس تمامًا» من الكبار فى محيطى. لذلك، قطعت على نفسى عهدًا ألا أكون كبيرًا أبدًا، وألا أعتاد العالم، أو أعتبر العالم أمرًا مسلَّمًا به، أو أتقيد بالقواعد والمعايير. أعتقد أننى حافظت على هذا العهد.



تحمل الفلسفة فى مضمونها، إمكانات هائلة لمساعدة الصغار فى مواجهة الحياة الحقيقية، بتقديم الأدوات اللازمة للتأمل وفهم ذواتهم والعالم، ومكانهم منه، فهى تشجع الإنسان على التأمل الذاتى، من خلال التفكير فى الأسئلة الوجودية التى تخص معنى الحياة، وطبيعة المعرفة، ووجود الله، كما تدعوه للغوص فى أعماق كيانه والتفكير فى قيمه ومعتقداته ورغباته، مما يساعد على صقل شعوره بذاته وهدفه، وبالتالى، اكتساب رؤى قيمة حول هويته وكيفية ارتباطه بالعالم من حوله.

بالحديث معك، تحضرنى أفكار عن أدب نجيب محفوظ، الذى درس الفلسفة، مثلك. تعتبر كتابة محفوظ صورة فنية أدبية لكتابة فلسفية وتجلياتٍ دينية لم يكتبها، أو ربما كتبها سرًا، وأرى هذا ينسحب بشدة على كتابتك التى تخوض بعمق فى مواضيع فلسفية ووجودية، كما أنك تُدرِس الفلسفة أيضًا.. إلى أى مدى يمكننا اعتبار الأدب انعكاساً للفلسفة ومدخلًا لفهمها؟

أؤمن بأن أدمغتنا مخلوقة لتلقى القصص، لا المعلومات. إذا أخبرتِنى بالكثير من الحقائق عن مصر، مثلًا، سأستمع بعناية، مهتمًا جدًا بما تقولين، لكنى سأنساه. لكن، إذا رويتِ لى قصصًا مصرية، سأتذكرها بالطبع. أعتقد أن معرفة الكثيرين فى مصر يأتى من خلال اطلاعهم على القصص المصرية والأساطير القديمة وما إلى ذلك.



لذا، أعتقد أن السر هو قوة السرد وبنيته المعتمدة على الأسئلة بالأساس أيضًا، كالفلسفة، وقدرته على التفاعل مع ذهن المتلقى ليحفزه على التعاطى مع المعلومات التى يشملها.

راقبى الأطفال وهم يبدأون تسمية الأشياء، بمجرد تعلُم الكلام، ثم تأتى القصص بسرعة. يعود الأطفال إلى المنزل، من المدرسة أو حتى روضة الأطفال، بقصصٍ ليروونها، وغالبًا ما تحمل هذه القصص أسئلةً فلسفية.

حين بدأت فى كتابة «عالم صوفى»، كنت أنوى كتابة مقدمة بسيطة للفلسفة، يسهُل على الشباب قراءتها، متحديًا الاعتقاد بأن الفلسفة فرع كبير ومعقد من فروع المعرفة، لأننى لم أكن أرَاها كذلك.

بدأت فى تأليف كتاب غير روائى. كتبت عن فضول البشر الدائم، والمُلِح كفضول الفتيات الصغيرات، مما يجعل البشر فلاسفة دومًا. كان الناتج نصاً مُملاً للغاية. لم أستطع المواصلة بهذه الطريقة. تحولت المقدمة إلى رواية، ببساطة، حين أدركتُ أن ما يضمن نجاحًا ما لكتابٍ كهذا هو تقديمه فى إطار قصة، سرد أدبى.

ألهمتنى كتابة «عالم صوفى» والتعمق فى تاريخ الفلسفة باستخدام السرد الأدبى كأداة لمشاركة شغفى بهذا الموضوع، ولجعل الفلسفة أكثر سهولة وجاذبية، ولإشعال شعور بالعجب والفضول لدى القراء حول الأسئلة العميقة التى تسعى الفلسفة للإجابة عنها.

ربما يكون هذا هو السبب وراء كون رواية صوفى من الروايات الأكثر مبيعًا، بالعديد من اللغات، للشباب والكبار، على الرغم من أنها رواية ذات موضوع فلسفى واضح وهذا غير سائد.



نعم، أظن ذلك أيضاً. وكما تعلمين، يرى الكبار الرواية ويقولون «إنها رواية للشباب، بالطبع يمكننى قراءتها أنا أيضًا»، وبالتالى أعتقد أن الكثير من قراء صوفى هم من البالغين.

هل يمكنك مشاركتنا بعض الأفكار حول عمليتك الإبداعية؟ بحثك؟ قرار اختيار النوع الأدبى والأسلوب لكل عمل من أعمالك؟ باختصار، كيف تطور الفكرة المجردة إلى رواية؟
- أعتقد أن أحد أسرار عمليتى الإبداعية هو المشى. قبل أن أبدأ فى كتابة مشروع جديد، أمشى لمسافاتٍ طويلة. أفكر فى المشروع، وأتأمل القصة التى سأرويها لفترة طويلة قبل أن أبدأ. لا أشعر بأى ذكاء أو إبداع أمام الكمبيوتر. لكن تغمرنى موجات توقُد الذهن والإبداع أثناء المشى سواء فى المدينة أو فى ضواحيها، وهو أمر نرويجى للغاية فى الواقع.

العاصمة النرويجية أوسلو محاطة بغابات رائعة الجمال. من الممكن الذهاب إلى هناك طوال أيام الأسبوع لساعاتٍ دون لقاء أى شخص. لكن إذا قابلتَ شخصًا ما، بعد المشى لساعاتٍ فى عزلة، تقول له مرحبًا ويبدأ كلاكما فى الحديث بلهفة. لأننا لا نرى بعضنا البعض فى المدينة.




نلتقى ونتحدث فى الغابات. أذكر أننى عندما كنت شابًا وأتطلع إلى أن أحظى بحبيبة، كنت أذهب إلى الغابة. اعتقدتُ أن حدوث هذا فى المدينة يكاد يكون مستحيلًا، على الرغم من أن المدينة مليئة بالفتيات الجميلات الذكيات. وبرغم وجود قِلة من الفتيات فى الغابة، ولكن إذا التقيت بواحدةٍ سيكون من السهل إلقاء التحية والبدء فى الحديث.

فى أثناء مرحلة المشى، أدون الكثير من الملاحظات النابعة من الدهشة والتساؤل، تتراكم لدىَّ كل الملاحظات قبل أن أبدأ فى الكتابة. يحدث ذلك بعد خطوة تحديد المشروع بالفعل. بعدها، تبدأ مرحلة البحث. عندما كنت أكتب «عالم صوفى» على سبيل المثال، كنت أركز بشدة على الفيلسوف أو الكتاب الذى كنت أكتب عنه، وأحاول حشد وعيى بالكامل لتجميع انطباعاتى.

تشغلنى سهولة قراءة الكتاب وسهولة استيعاب الأفكار التى يتضمنها. الفلسفة، رغم كونها آسرة، قد تشكل تحديًا فى بعض الأحيان للوافدين الجدد. وبالتالى أثناء البحث، أحرص على التأكد من أن المحتوى الذى أقوم بتضمينه جذاب ومفهوم للقراء على تفاوت معرفتهم المتفاوتة بالموضوع. ولتحقيق ذلك، أتعاطى أثناء البحث مع المفاهيم غير مفرطة التجريد أو التخصص، مع التركيز على مفاهيم مهمة لتطوير النص الذى أكتبه ويمكن فهمها بسهولة.

عمومًا، يتطلب تحديد المفاهيم التى سيتم تضمينها فى الكتاب توازنًا دقيقًا بين العمق والرحابة وسهولة الاستيعاب، واختيار وعرض وجهات نظر متنوعة. وبالنسبة لصوفى، آمل أن تكون اختياراتى قد زودت القراء بمقدمة شاملة للفلسفة وأشعلت فضولهم للتعمق بشكلٍ أعمق فى عالم الفكر الفلسفى المذهل.

رغم استخدام أدواتك التى تلجأ لها كثيرًا: الأسئلة، وسرد قصة داخل قصة، وتضمين الأفكار الفلسفية فى وجهات نظر الشخصيات.. إلا أنك تخرج أحيانًا عن موضوعاتك الإنسانية المعتادة. ما الذى يلهم مثل هذه التحولات، حين تفاجئك الكتابة باستكشاف نوع أدبى جديد أو موضوع لا تألفه؟ ومتى يأتى قرار اختيار النوع الأدبى والأسلوب المناسبَين للعمل؟

يأتى القرار بتلقائية بحسب المشروع. ألفتُ رواية بعنوان «لغز سوليتير» قبل «عالم صوفى»، رواية معيارية كما يقولون، وكان ذلك بمثابة أول إنجاز أدبى لى ككاتب فى النرويج. لكن «عالم صوفى» كان نصًا شعرتُ بأنى مُلزم بكتابته. بدأت صوفى ككتاب غير روائى كما ذكرتُ.

كنت أدرِس الفلسفة، وسيطر هذا علىَّ تلك الفترة من حياتى. لذا، أخبرت زوجتى أننى سأكتب مقدمة عن تاريخ الفلسفة، ولا أنتظرُ أن تحقق نجاحًا جماهيريًا، ولن نكسب أى أموال من ورائها، أو تحقق مبيعات جيدة، افترضتُ أنها ستكون نصًا تربويًا أو تعليميًا.

قالت زوجتى، حسنًا، ألِف هذا الكتاب، ولكن انتهِ منه بسرعة، حتى تتمكن من كتابة رواية جديدة. المرأة عملية، كما تعلمين. لذا، ما أبقيته سرًا لسنواتٍ عديدة هو أننى كتبت صوفى فى ثلاثةِ أشهر. كنا عائلة لدينا طفلان، ونحتاج إلى المال للعيش، ولم أكن مؤمنًا بالجوانب الاقتصادية للمشروع.

لذلك، بدأت الكتابة فى مايو، وانتهيت منها فى أغسطس، وانقطعت طوال شهر يوليو كإجازة. قدمتُ المخطوطة النهائية للناشر فى سبتمبر ونُشرت قبل عيد الميلاد، فى الخامس من ديسمبر.

كان الكتاب بالنسبة لى بمثابة خطوة جانبية، سأنهيه سريعًا، ثم أمضى قدمًا وأواصل حياتى. أثار دهشتى أننى كنتُ مخطئًا، وحققت «صوفى» نجاحًا كبيرًا على الفور. لذا، أنا ممتن لحصوله على كل هذا التقدير، لأنى كنت مهمومًا بعض الشىء بما سيقول الأكاديميون، مثلًا، عن هذا الكتاب. لكنى سعدتُ للغاية حين لمستُ رضا أكاديميين وأساتذةٍ عنه. ما زلتُ أتلقى الكثير من الرسائل اللطيفة منهم من جميع أنحاء العالم.
 
فى الغالب، أكتب عن ذوى القلوب الطيبة. قصص الحب، قصص دافئة، لكن فى «ابنة مدير السيرك» مثلًا فعلتُ العكس. كتبتُ عن الشرير. إنه شخص رائع ولافِت، لكنه غريب بلا أصدقاء ويفضل صحبة نفسه وعالمه الخيالى. كان تحديًا بالنسبة لى أن أكتب قصة عن شخصٍ شرير.

فى الواقع، بدأ الأمر من الكتاب السابق لهذا الكتاب، «مايا»، الذى لم يتحمس له النقاد فغضبت بعض الشىء. أظن أن كتابة هذه الرواية كانت رد فعل مبالغاً فيه للتأكيد على قوة كتابة القصص وروايتها، وتركتُ نفسى له.

وعلى جانبٍ آخر، فإن الكتاب المُترجم حديثًا إلى اللغة العربية «أسئلة وتساؤلات» هو كتاب مصور غير روائى، يتكون النص من أسئلة فحسب، بينما نجد القصة فى الصور وحدها. أعتقد أنه خرج كقطعةٍ فنية تمتزج فيها الأسئلة الفلسفية مع الرسوم البديعة التى تحكى قصة صداقة وحب وحزن لصبى فقد شقيقه التوأم..  وعن الجرأة فى التفكير فى الحياة كما نعيشها، ما هى الحياة؟ هل يوجد إله؟ وهكذا.

إنها قصة حزينة تتبع طفلًا صغيرًا يسافر بمفرده فى مشهدٍ مفتوح فى رحلة من الأفكار والأحلام، ولكنها أيضًا سبب لطرح هذه الأسئلة: «لماذا أنا حى؟ «ولماذا خُلقت»، وأسئلة حول الخسارة والأسطورة واللغة والسحر وما يعنيه أن تكون إنسانًا.

قد تكون هذه هى أسئلتك الأولى فى الحياة، على ما أعتقد، منذ طفولتك، ونشأتك فى منزل متحرر مع أم كاتبة وأصدقاء متنوعين للعائلة يحيطون بك؟
هذا صحيح. ولدتُ فى عام 1952، ونشأتُ فى الستينيات، وفى ذلك الوقت كان لدينا ما يمكن تسميته بسقفٍ عالٍ من الحرية، وكان والداى منفتحين للغاية. أتذكر منذ طفولتى أننى كنت أظلُ مستلقيًا على السرير استعداداً للنوم، وأستمع إلى موسيقى البيانو التى يعزفها أحدهم على خلفية ضجيج المناقشات والجدال بين والدىَّ وأصدقائهما، أحببتُ ذلك. أحببت ما وصلنى منه: «أنا أيضًا أتمتع بحرية التعبير، بما أن هذا شائع فى عائلتى».

هذا ما عزز ظهور الفيلسوف الأول بداخلك؟
نعم. أظن. لأننى تجرأت على طرح الأسئلة. هذا هو نصف الطريق للحصول على الإجابات. يمكننى الذهاب إلى أحد والدَىَّ وطرح أى سؤال بخصوص أى شىء. باستثناء سؤال «ألا ترون أن وجود العالم ووجودنا أمر عجيب؟»، توقفوا عنده. عندها فقط قلقوا بشأن قواى العقلية، بل قالوا: «لا ينبغى عليك أن تهيم وتفكر فى أمورٍ كهذه». ربما خافوا من أن يصيبنى الجنون أو ما شابه، لكن هذا ما جعلنى أفكر فى أن العالم مجنون.

من المؤذى أن تطلب بعض العائلات من صغارها التوقف عن طرح الأسئلة، وحبس فضولهم، وجعلهم يشعرون بالذنب من خلال طرح بعض الأسئلة الكلاسيكية حول الله مثلًا أو كيف يأتى الأطفال، وما إلى ذلك.

وبلقائنا هنا، فى معرض القاهرة للكتاب، أود القول بأن الأهم بالنسبة للآباء ليس القراءة لأطفالهم فحسب، بل القراءة معهم. حين تُجلِس طفلك، أو حفيدك، فى حِجرك، وتقرآ معًا، فإنكما تخوضان تجربة وأسئلة مشتركة. هذا يخلق انتماءً ما. ونتيجة لهذه التجربة، تشجع طفلك على طرح الأسئلة. أعتقد أن هذا مهم. طرح الأطفال للأسئلة مهم جدًا.

تعرفين قصة الكاتب الدنماركى هانز أندرسن عن الإمبراطور العارى. فى بلاد ديكتاتورية، قِيل للناس إنهم إذا لم يروا جمال ملابس الإمبراطور فذلك بسبب أنهم غير أكفاء أو أغبياء، لذلك، تظاهروا جميعًا بالدهشة وأبدوا الإعجاب بملابسه، حتى صاح طفل قائلًا: «أمى، لماذا يخطر الإمبراطور عاريًا؟». ذلك الطفل هو الذى جرؤ على قول الحقيقة. من أسئلة الأطفال وحدهم يمكنك سماع الحقيقة.

هذا الفعل الفلسفى البدائى والأساسى، طرحُ الأسئلة وتتبعها، مُستخدم بشكلٍ متكرر فى رواياتك، كرواية «فتاة البرتقال» مثلًا، والتى تعتمد، مثل «صوفى»، على طرح أسئلة حول أصل المعرفة التى تؤدى إلى اكتشافاتٍ أعمق حول الذات والكون. كيف توازن بين الجوانب الفلسفية فى رواياتك وعناصر السرد القصصى، خاصة مع تحدى الكتابة لجمهور أصغر سناً؟

أستخدم سرد القصص كأداة لتبادل الأفكار الفلسفية، ببساطة. أود أن أقول إن كل كتبى هى كتب فلسفية، لكن «عالم صوفى» فقط هى كتاب عن الفلسفة. أعنى أنه برغم كونها رواية، إلا أنها تعتبر كتاباً معرفياً بصورة ما، ومقدمة لتاريخ الفلسفة.

كان التوازن بين السرد والفلسفة بمثابة مداولات مستمرة طوال عملية الكتابة لتحقيق تشابك العنصرين فى علاقة تكاملية. فى بعض الأحيان، تطلَّب ذلك ضبطًا دقيقًا للسرد لتوصيل الأفكار المعقدة، وفى حالات أخرى، حفزت الأفكار الفلسفية تطور القصة ذاتها. فى النهاية، كان هدفى هو خلق تجربة قراءة متماسكة وغامرة يكون السرد فيها بمثابة وسيلة مقنعة لاستكشاف المفاهيم الفلسفية وآثارها على الوجود الإنسانى.

أعتقد أن الرواية الفلسفية الناجحة ينبغى ألا تقدم المفاهيم الفلسفية كمناقشات معزولة، منفصلة عن القصة المقنعة، بل تهدف إلى نقل عمق وثراء الأفكار الفلسفية من خلال رواية قصص جذابة، وبالتالى السماح للقراء بتجربة التكامل السلس بين السرد والفلسفة.

لذا هدفى الأساسى هو صياغة حبكة آسرة من شأنها إشراك القراء على المستوى العاطفى، وتحقيق تجربة مترابطة من خلال وضع القصة فى المقدمة، حيث يعمل السرد كقوة دافعة، يدفع القصة إلى الأمام ويخلق شخصياتٍ ومواقف يمكن للقراء تكوين روابط قوية معها.

كما أن لدىَّ قناعة بأنكِ إذا حاولتِ كتابة قصة جيدة لتقديم تاريخ الفلسفة للكبار، فعليكِ كتابتها للأطفال بعمر أربعة عشرة أو ستة عشرة عامًا. كنت أتحدث مع أشخاص يشرفون على متحفٍ كبير فى النرويج، وتساءلوا عن الصورة التى ينبغى أن يكون عليها المتحف.

كانت نصيحتى «تخيلوا أن هذا متحف للأطفال بعمر اثنى عشر عامًا، اجعلوه هكذا، وسيكون أفضل متحف للكبار أيضًا»، وأخذوا بالنصيحة. أعتقد أن الأطفال فى هذا العمر فضوليون للغاية ويطرحون نفس الأسئلة البسيطة التى قد يطرحها الكبار، لكن الكبار يخجلون من طرح أسئلة «غبية».

بالإضافة إلى ذلك، ألهمتنى قوة رواية القصص بحد ذاتها. من خلال مزج الخيال بالفلسفة، حتى اعتقدت أننى أستطيع إحياء المفاهيم المجردة وجعلها أكثر واقعية وقابلية للوصول إلى القراء.

ومن خلال رحلة صوفى الاستكشافية، سعيت إلى التقاط الإثارة والرهبة التى يمكن أن تثيرها الفلسفة لدى الأفراد، فضلاً عن القوة التحويلية التى تمتلكها لتحدى افتراضاتنا وتوسيع منظورنا للعالم.

كما أن اعتماد صيغة السرد الأدبى منحنى حرية الإبداع والخيال فى نهجى لتقديم الفلسفة ومكنتنى من خلق مجموعة متنوعة من الشخصيات يجسد كل منها وجهات نظر وأفكاراً فلسفية مختلفة. من خلال تفاعلاتهم وحواراتهم، تمكنت من إحياء المفاهيم المجردة وإظهار مضامينها العملية.

علاوة على ذلك، سمح لى استخدام السرد الأدبى بتقديم الفلسفة كعملية مستمرة وديناميكية، إذ تتكشف الأفكار الفلسفية جنبًا إلى جنب مع استكشاف حبكة القصة، مما يمكّن القراء من مشاهدة أهمية هذه المفاهيم وتأثيرها فى مواقف الحياة الواقعية.

هل ترى أن الفلسفة والأدب يمكنهما مساعدة الصغار كى يستمعوا إلى قلوبهم، ويتعرفوا على أصواتهم الخاصة وهواياتهم الحقيقية مع كل هذا العصف التكنولوجى المحيط بنا؟
يمكننا تشبيه العقل، العقل الشاب تحديدًا، بمنزل بلا أثاث لكنه مُهيأ لاستيعاب أنواع مختلفة ومتنوعة من الأثاث. والأثاث لهذا المنزل العقلى هو ما تقرأه. أعتقد أن الفلسفة بشكل عام تملأ هذا المنزل، فمن خلال قراءتها نوسع قدرات عقولنا. من الصعب الاستبداد بشعبٍ والسيطرة عليه، من قبل السياسيين، مثلًا، إذا كان هؤلاء الناس قُراء، وأعتقد أن هذا يظهر بشكلٍ خاص عندما نتحدث عن الفلسفة كأثاثٍ لهذه البيوت العقلية للشباب.

لأن الفلسفة تدور حول أسئلةٍ أساسية بسيطة. وهذا هو الفرق بين الفلسفة والأديان، مثلًا. تطرح الفلسفة هذه الأسئلة الأساسية، بينما تقدم الأديان إجاباتٍ ثابتة عليها من خلال الوحى. أنا لا أشك فى موقف الأديان، لكنه يختلف عن موقف الفلسفة. من المهم التوفيق بين معتقداتك والموقف الفلسفى لطرح الأسئلة.

تزود الفلسفة الشباب بمهارات التفكير النقدى، وتطوير القدرة على تحليل وتقييم الأفكار والحجج بشكل فعال. تساعدهم هذه المهارة بدورها فى التغلب على تعقيدات العالم الحديث، مع غمر المعلومات المُضللة ووجهات النظر المتضاربة، كما تعمل على تنمية الشك الصحى فى الفرضيات، واتخاذ قراراتٍ أكثر استنارة. وبالتالى، تساعدهم فى التفكير بشكل مستقلٍ ونقدىٍ، مما يعزز قدراتهم على حل المشكلات فى مختلف المجالات.

كما تعزز الفلسفة التعاطف والتفاهم مع وجهات نظر بديلة، وفهمنا للآخرين من خلال استكشاف وجهات نظر فلسفيةٍ مختلفة. يشجع التعرض لأفكار مختلفة الانفتاح والتسامح وتقدير ثراء التنوع البشرى وتعقيده ويساعد فى التغلب على التحيز.
 
قرأتُ «صوفى» بالعربية، ثم بالإنجليزية. تُرجمت الرواية عبر لغة وسيطة، كحال العديد من أعمالك. كيف ترى انتقال أعمالك عبر الثقافات المختلفة، وهل شعرت يومًا بـ«الضياع بين الترجمات»؟

هذا سؤال مهم للغاية. تشغلنى عملية ترجمة كتبى. عندما يتم نشر كتبى باللغة السويدية، أو الدنماركية، أو الألمانية، أو حتى باللغة الإنجليزية، يمكننى قراءتها ومتابعتها من خلال المراجعات، ولكن بالتأكيد لا أستطيع القيام بذلك عند صدور ترجمات أعمالى للغات أخرى.

بالتأكيد، أُفضل أن تُترجَم أعمالى مباشرة عن اللغة النرويجية، للوقوف على اللغويات الأصلية للنص وروحه وطبيعته الأولى، لكن أعتمد على الترجمات الإنجليزية والألمانية التى أراجعها ليتم ترجمتها إلى العربية أو الصينية أو الكورية وغيرها، كما يعتمد الأمر على اختيار دار نشر موثوقة.

تساعد اللقاءات الدائمة مع المترجمين فى تطوير عملية نقل الكتب بين الثقافات. فى العام الماضى كان لدينا تجمع كبير للمترجمين من جميع أنحاء العالم بتمويل وتنظيم «مؤسسة نورلا»، المنظمة النرويجية التى تمول وتسهل الترجمة المباشرة للكتب النرويجية، التقيت بكثيرٍ منها.

عند ذكر الترجمات، أريد أن أقول إنه عندما أؤلِف كتابًا، لا يكون لدىَّ أى فكرة عما إذا كان سيُترجَم للعديد من اللغات. ولو كنت أعرف ذلك أثناء كتابتى لعالم صوفى، مثلًا، لأسميتها مقدمة لتاريخ الفلسفة الغربية.

نعم لاحظت غياب مناهج الفلسفة الشرقية:
نعم، إنها بالتأكيد مقدمة لتاريخ الفلسفة الغربية، لكنى مقتنع بأن منظور تاريخ الفلسفة هنا هو التقاليد الفكرية، أولاً لدينا الفلسفة اليونانية، ثم ورثت المسيحية الفلسفة اليونانية، ثم أتت مناهج الفلسفة الإسلامية. وهكذا، تم نقل تقاليد الفلسفة اليونانية عن طريق الثقافة المسيحية الغربية وأيضًا عن طريق المسلمين العرب، حتى القرن الثانى عشر الميلادى، حين التقت هذه المصادر جميعًا فى إسبانيا وأعاد دارسو مناهج أرسطو من المسلمين أرسطو إلى أوروبا. لذا، أعتقدُ أن تقاليد الفلسفة الإسلامية، على الأقل، من بين الفلسفات الشرقية مشمولة فى مقدمتى بطريقة ما.

فى عام 2006، كتبتَ مقالك «شعب الله المختار»، تعليقًا على الحرب فى لبنان ودعوت العالم إلى التوقف عن الاعتراف بدولة إسرائيل 1967، كعدم اعترافه بنظام طالبان فى أفغانستان أو نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، مما اعتُبِر على نطاق واسع، «مقالًا معاديًا للسامية». وفى عام 2011، ذكرتَ فى «صحيفة أفتنبوستن» أنك ندمت على استخدام «بعض العبارات التى قد يُساء تفسيرها على أنها معادية لليهودية».

من اهتماماتك بالقضية الفلسطينية، وانتقادك للاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية على عدة مستويات، كيف ترى حرب الإبادة الجماعية فى غزة 2023 والمستمرة حتى هذه اللحظة؟

أنا قلق للغاية بشأن هذا الصراع، وأحمل تعاطفًا كبيرًا مع الفلسطينيين. أعتقد أن ما يحدث الآن فى غزة أمر فظيع، وأستهجن هجوم حماس على إسرائيل أيضًا. لكن الأمر يتعلق بنسب القوى. لا أستطيع أنا ولا المجتمع الدولى أن نتسامح مع أية محاولة لجعل غزة جزءًا من إسرائيل. هذا هو رأيى. وأيضاً، لا يمكننا أن ننسى كيف قامت دولة إسرائيل.

لزمنٍ طويل، اضطر الشعب الفلسطينى، ذى الأغلبية المسلمة، وأيضًا الكثير من المسيحيين، إلى الانتقال إلى غزة، وكذلك إلى لبنان والأردن وجميع دول الجوار. إنه تاريخ متكرر.

فى النهاية، سأقتبس من عبارات صوفى، كيف تجد طريقك عندما تشعر بأنك عالق داخل «فرو الأرنب» برؤية مشوشة وآفاق محدودة؟
ذكرتُ أننى حين كنتُ طفلاً قطعت على نفسى عهدًا ألا أكبر أبدًا أو أعتبر العالم أمرًا مسلمًا به، وألا أعتاد على وجود هذا العالم أبدًا. حين أعلق فى فرو الأرنب أتمسك بطفولتى وأقاتل لإيجاد طريقة للخروج، وأحفز نفسى بالسعى لمواجهة أسرار الكون العظيم، وأذكِّرها بأننا نحيا هنا لفترة قصيرة جدًا، وبمجرد مغادرتنا، لن نعود أبدًا.