« حالة ذهول» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، حين ركب خليل القطار من محطة المدينة، عائدا، لزيارة أهله، بعيدا، في إحدى المناطق الداخلية.. لم يستطع الشاب، لأكثر من عامين، إيجاد فرصة لنيل إجازة، يستريح خلالها، من مشاق عمله اليومي، الدؤوب، بمخبر التحاليل الطبية ..

لقد اعتاد حياة المدينة، التي اتخذها مستقرا له، منذ سنوات...لطالما استهوته الزيارات لقريته الجبلية، موطن أحلامه وآماله، في سنوات الطفولة والصبى..

انطلق القطار يطوي المسافات، في ذلك الطقس الشتوي المتقلب.. هبت ريح باردة، ولمع برق،  يخطف الأبصار، مخترقا السماء الملبدة بالسحب السوداء، وزمجر الرعد ،ثم ما لبث أن ازداد قعقعة وقصفا، قبل أن تبدأ الأمطار بالهطول ..

حين توقف القطار بالمحطة التي ينشدها خليل، كانت الشمس منحدرة خلف الجبال، في طريقها إلى الغروب، وأمسى الجو صحوا .. سار الشاب راجلا، تحت ضوء القمر.. وكان عليه أن يقطع مسافة تتجاوز الكيلومترين، لبلوغ المنزل، مرورا بحي سكني، غمرته الأبنية الفوضوية، ولم يمرّ على نشأته وقت طويل..

 غير بعيد، لاحت لخليل فتاة شابة، جميلة، ممشوقة القوام، ، تقف في اتجاهه، على جانب الطريق، تحمل حقيبتها، وقد ارتدت ملابس بيضاء.. تساءل في دهشة :

« من الذي أتى بها ههنا، في مثل هذا الوقت ؟ هل كان ذاك القطار، الذي كنت أركبه، منذ حين، هو الذي أوصلها ؟»..

 بدت الفتاة، وكأنها تقف هناك في انتظار خليل، ليرافقها في طريقه .. سارت إلى جانبه، بعد أن عرّفته بعنوان إقامتها، ثم ما لبثت أن لاذت بالصمت، بقية الطريق، وظلّت، هكذا، لا تنبس ببنت شفة حتى عبرا، معا،  جسرا صغيرا، يجري من تحته نهر، تلتمع مياهه المنسابة، الهادئة، تحت نور القمر الساطع، البهي..

في تلك اللحظة، لم يفهم خليل سبب الاضطراب، والخوف اللذين أصابا مرافقته..

وبمجرد الوصول إلى المكان المعلوم، توقف الشاب عن السير، وبقي يتابع الفتاة، وهي تدبر بخطى حثيثة، قبل أن تدلف لزقاق يؤدي إلى المنزل..

 وفجأة، خطر له أن يتبعها إلى حيث تمضي، ليستوضحها أمرا ذكره بعد نسيان..

بلغ نهاية ذلك الزقاق المظلم.. وقف أمام الباب، وراح يطرقه.. فتح له رجل فارع الطول، ومن ورائه زوجته، ليستفسراه عن سبب حضوره هناك..

التقط خليل أنفاسه، وأنشأ يتحدث، وعيناه تختلسان النظر إلى ما وراء الباب الموارب، ليروي لهما قصته، واصفا تلك الفتاة الشابة، التي كانت برفقته منذ لحظات ..

ارتسمت على ملامح الزوجين حيرة وتأثر شديدان للغاية، وهما يصغيان للحكاية.. اعتراهما ذهول، وطفقا ينظران إلى بعضهما، قبل أن يكشفا لمحدثهما أن الفتاة، التي حكى عنها، هي ابنتهما الوحيدة، التي توفيت، منذ خمس سنوات، في حادث دراجة نارية، فوق ذلك الجسر الصغير، غير بعيد عن الحي..

وقف مسمرا في مكانه.. يرسل نظرات مرتبكة.. لا يدري ما يقول، وقد سرت في جسمه النحيف قشعريرة، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه...