«قلب بلا خطيئة».. قصة قصيرة للكاتبة هبة سمير يوسف

الكاتبة هبة سمير يوسف
الكاتبة هبة سمير يوسف

فى مدخل (د) بهرم سيتى بمدينة  6 أكتوبر، على اليمين رابع عمارة ، مسكن " روان" الكوافيرة السورية، وقد اتخذت به غرفة تطل على الشارع، ألحقت بها باباً حديدياً للدخول والخروج، وجعلتها كوافير حريمى.

ورغم بؤس الغرفة وقِدم الأشياء المستخدمة بها كافة، من أريكة عليها مفرش بالٍ، ومقعد (فوتيه) بالٍ أيضاً، ومقعد بمسند أعلى، تجلس عليه الزبونة أمام روان، لتمارس عملها بخفة ومهارة بالغتين رغم إمكانياتها المحدودة، فمرآة الزينة مكسورة بأعلى جانبها الأيمن، و(سيشوار) الشعر تستخدمه منذ خمسة عشر عاماً وتضع الشمع السوري الذى تستخدمه لإزالة شعر الوجه والجسم فى وعاء كبير قديم، إلا أن زبائنها كثيرات العدد ولا يستبدلنها قط بأى كوافيرة بإمكانيات أعلى وأرقى، وإن أغلقت محلها فترة لا يتجهن لغيرها بل ينتظرنها على أحر من الجمر.

وروان امرأة قوية الشكيمة، جسورة، أمينة، سليمة العقل والقول، لذا نفذت لقلوب زبائنها بالإضافة إلى مهارتها فى العمل، تبلغ من العمر سبعة وأربعين عاماً، ممتلئة الجسم، عيناها تتألقان بسلامها النفسى واتزانها، ناعمة الشعر، عادية الملامح، نزحت من سوريا منذ الحرب واستوطنت بمدينة 6 أكتوبر لهدوئها وقلة سكانها، جاءت مع زوجها، وابنها الشاب، وابنتها وزوجها، وتقلد كل منهم عملا بالمدينة، وكافحوا مراراً للعيش والتأقلم، وكانت لا تتوانى عن العمل، وإن اعترى الجميع ضيق الخلق، ونفاذ الصبر، وقهر البعد عن الوطن، ومعاكسات أبناء بلد غريب عنهم، كانت هى وحدها تردعهم وتعيدهم للصواب بقوة شكيمتها، ولولاها لضاعت تلك الأسرة مثل الكثير من عائلات سوريا التى تفرقت فى أتون الحرب القاسية .

كانت وتد أسرتها، وكثيراً ما تجلس إلى زبائنها تروى لهن ذكريات حياتها بوطنها الحبيب بلهجتها السورية الغنجة، التى لم تغيرها قط، ولم تكتسب لهجة أهل مصر رغم عيشها بينهم لأكثر من عشرين عاما على غرار سوريين كثيرين استوطنوا مصر، وأحيانا تناكفها إحدى زبائنها المصريات صاحبات القلب الطيب وخفة الدم والوجه القمحى:- بقى لك سنين عايشة وسطنا ولسه ما اتعلمتيش طريقة كلامنا؟

آه صحيح ياروان لسه ماتعرفيش تتكلمى مصرى ؟ ده احنا خلاص بنعتبرك مصرية زينا

وتجيبها بصوت دافئ:- وأنا بعتبركم أهلى زى أهلي بسوريا

ماهو احنا هنا فى أكتوبر نعتبرها سوريا التانية، ده السوريين هنا أكتر من المصريين!

فيضجوا بالضحك وتهتف أخرى:- أنا مبفهمش اللهجة السورية دى أوى عاوزة أعلمك اللهجة المصرية ياروان

وتجيبها بابتسامتها الحلوة:- أنا باعرف أتكلم اللهجة المصرية واعتبر مصر وطنى التانى، بس أنا باعتز بلغتى لأنها بتفكرنى بأهلي وناسي البعاد عنى

وتهتف إحداهن بها:- بس انتو "اللاجئين" مصر وفرت لكم مزايا كتير مش موجودة فى أى بلد تانية، وده السبب إن انتم بتفضلوها عن أى بلد تانية.

 ثم سرعان ما يبدو التأذى على وجهها وينطفئ مرح عينيها وتغمغم بحزن:- مش حلوة كلمة لاجئين دى ! إحنا مو لاجئين.

 ثم تغرق في صمت لا يشعر بجرحها سوى كل من أُجبر على هجر وطنه، وأضحى لاجئاً بكل بلد... ثم تدفن ألمها في عملها، تنكب عليه بمهارة وتفانِ.

وفى المساء تغلق باب الكوافير وتعد إيراد اليوم، تعزل منه جزءاً ترسله لأهلها بسوريا، وجزءاً ترسله لمساعدة المحتاجين منهم هناك، والباقى تضعه مع إيراد زوجها من عمله لصرفه على احتياجاتهم المعيشية، ثم تعد الشاى الساخن وتشغل الكاسيت تسمع أغانى وردة أو ميادة " حبيبى كان هنا مالى الدنيا عليا"، وتسرح، تتذكر طفولتها الجميلة وشبابها المنطلق هى وزوجها، وحبهما الجارف المندفع، أول لمسة يد، أول قبلة منه ألهبت شفتيها، وأول رجفة إحساس بين ذراعيه المفتولتين، لقد كان أيامها- أى منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً- شاباً منطلقاً، مختالا بجمال وجهه وشعره ولحيته وقوة شبابه، أما الآن فقد شاخت روحه قبل شعره، انطفأ وهمد، لولا وجودها بجانبه لرحل عن الحياة منذ سلب منه كل شئ ... وتترقرق دمعتان تتعلقان بأهدابها ويعاودها الحنين للأرض ، للوطن، للأمان، لسوريا الحبيبة، فتلفظ آهة مكتومة من قلب كبير يأمل أن يعود يوما للحبيب ويعانقه أمام الملأ .... وهل كان الحب يوما خطيئة؟