يوميات الاخبار

أيام فى البلقان ترفض النسيان

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«فى عام 1990  جاءت الانتخابات بمجلس برلمانى يهيمن عليه ثلاثة أحزاب على أساس عرقى وأعلنت كرواتيا ثم سلوفينيا الاستقلال وذلك بعد البوسنة وحدث انقسام سرعان ما تطور الى البقاء ضمن الاتحاد اليوغوسلافى أو الخروج منه 

 بدأ القرن الماضى بالحرب العالمية الأولى التى بدأت فى 28 يوليو 1914 وانتهت فى 11 نوفمبر 1918 ولقى فيها 16 مليون شخص مصرعهم .. ورفض القرن العشرون الذى شهد حروبا وصراعات واعتداءات واحتلالا واستعمارا وانتشارا لجرائم الإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة الذرية والقنابل النووية أن يتركنا فى سلام فاشتعلت الحرب فى البلقان وقبلها الصومال وبالمنطقة العربية التى مازالت حتى الآن تنزف الدماء فى أراضى فلسطين.


الحرب العالمية الأولى من أعنف الصراعات بالتاريخ وكان سبب اشتعالها حادث البلقان عندما قام ناشط صربى باغتيال ولى عهد عرش النمسا الأرشيدوق «فرانز فرديناند» بمدينة سراييفوعاصمة دولة «البوسنة والهرسك» والتى زرتها مرتين فى مهمتين صحفيتين فى العشر سنوات الأخيرة من القرن العشرين عندما شاركت قواتنا المسلحة فى فرض وحفظ السلام من ضمن قوات الأمم المتحدة بها ونقل دور ومهمة رسل السلام المصريين هناك للقارئ والمشاهد بمصر ..و فى عام 1999 كانت المرة الثانية مع مغادرة قواتنا بعد انتهاء مهمتها الإنسانية التى أشاد بها الجميع بالعاصمة سراييفو واقتصرت مهمتى على يومين للذهاب والعودة وتضمن لقاء مع رئيسى الجمهورية والوزراء بعد عودة السلام بالبوسنة والهرسك والاتفاق على نظام للحكم .. وأتذكر أن سفيرنا هناك كان الفريق يوسف صبرى أبوطالب قائد قوات الدفاع الجوى السابق ووالد زوجة الصديق والزميل ماجد منير رئيس تحرير بوابة الأهرام الالكترونية وكان وقتها محررا للشئون العسكرية لصحيفة الأهرام المسائى ودعانا السفير المصرى وزوجته لتناول العشاء معهما وكانت الثلوج تغطى المكان والجو شديد البرودة أزالها دفء اللقاء والمناقشات الحميمة وأتذكر أنه بعد انتهاء دعوة العشاء ونحن فى طريقنا للعودة لمكان المبيت «اتزحلق» زميلنا فى الأهرام أحمد فؤاد لعدم ارتدائه حذاء مقاوما للثلوج فسقط وتدحرج وكان من الصعب علينا إمساكه وظل جسده لثوان يجرى مسرعا للسقوط من فوق الجبل والحمد لله أنقذه من استكمال طريق السقوط اصطدامه بإطار إحدى السيارات المنتظرة على جانب الشارع فحجزته وظل هذا المشهد يرعبنى ونحن فى طريقنا الى مكان مبيتنا وأنا بين لحظة وأخرى اشعر مع كل انحراف للسيارة أننا سوف نسقط من فوق الجبل وشغلت نفسى بسؤال من كان بجوارى ما الفرق بين هبوط الطائرات على ممر به ثلوج أو أمطار وآخر جاف حتى وإن كانت المركبة تحمل حمولة أو وزنا فأجابنى بأنها تحتاج لمسافة أطول حتى تقف لأن الحمولة تساعد على التزحلق وليس الثبات.


مهمة الأيام الثمانية
كانت المرة الأولى فى عام 1994 واستغرقت مهمتى 8 أيام وكان الجو باردا نهارا وصقيعا شديدا بالليل ودرجة الحرارة نهارا لم تتعد 5 درجات ولكن ليس بها ثلوج تغطى الطرق مثل المهمة الثانية بعدها بـ 6 سنوات وكان قد سبقنى الى سراييفو فى مهمة صحفية أيضا بالعام السابق زميلى وصديقى الكاتب الصحفى ياسر رزق «رحمة الله عليه» والذى شغل منصب رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم ورئيس تحرير الاخبار وكنت وقتها أيضا فى مهمة صحفية مع رسل السلام المصريين بالصومال وفى رحلتنا الى البوسنة والهرسك كان هبوط الطائرة المصرية التى تحملنا وابطالنا من قوة التغيير وبعض المعدات والمساعدات الإنسانية فى مطار زغرب فى كرواتيا تلك المدينة التى اتخذت منها الأمم المتحدة مركز قيادة لعمليات حفظ وفرض السلام بالبوسنة والهرسك.. وقضينا فيها يوم وصولنا سرايفو وآخر قبل مغادرتنا للقاهرة من مطار فرانكفورت بألمانيا .


التقينا بالمسئولين بالأمم المتحدة وتحدثنا عن الحرب البوسنية ودور قواتنا فى فرض وحفظ السلام وتناولنا طعام الافطارـ حيث كنا فى شهر رمضان ـ بمطعم الأمم المتحدة وتجولنا بمدينة زغرب قبل أن نذهب الى الفندق واتذكر أننى التقيت بإحدى تلميذات المدارس وطلبت منى 5 كرونة وهى العملة بكرواتيا مثل القرش لدينا وعندما سألت أحد مرافقى إن كانت تتسول فقال لى :لا ان طلاب المدارس يأخذون من الكبار الكرونات ويشترون بها ساندوتشات هامبورجر أو كوب آيس كريم أو نوعا من الحلوى .. وقد كانوا فى زغرب هاربين من نار الحرب ويقيمون بالقرب من الفندق الذى تناولت فيه وجبة السحور من وجبة العشاء هناك لتحملنا فى صباح اليوم التالى طائرة عسكرية سوفيتية الى مطار سراييفو الذى يقع وسط الجبال حتى أننى شعرت بأننا سوف نصطدم بأحدها أثناء الهبوط .. وبمجرد وصولنا المطار وكان يرافقنا ضباط مجموعة الاتصال من أبطالنا البواسل مع الأمم المتحدة ركبنا المدرعة المصرية الفهد وأخذت أنظر من الفتحة العلوية والتقط صورا للطريق ثم سمعت صوت طلقة فى الهواء فطلب منا أحد الضباط المرافقين النزول لداخل العربة المدرعة ولم يخبرنا بما حدث وعرفت بعدها أنها كانت طلقة قناصة لأننا كنا نمر بمنطقة يتقاسم التواجد بها الفريقان المتقاتلان ..كما علمت أنهما استقبلانا بقذيفتى هاون سقطتا بالقرب من مكان إقامتنا.


«جنة اوروبا» والصراع
كانت معلوماتى قبل سفرى أن الصراع الدائر فى البوسنة والهرسك دينى وعقائدى وان مهمتنا بالمشاركة فى فرض السلام وحفظه بإقامة نقاط مراقبة على بعض المحاور وذهبت الى إحداها فى اليوم التالى بجوار أحد الانفاق وقمت بارتداء صديرى واق وخوذة لحمايتى من طلقات القناصة.. وفى اليوم السابق شاهدت قواتنا وهى توزع طعام الإفطار والسحور والمساعدات الانسانية على المحتاجين وعرفت أن بالبوسنة والهرسك 3 مجموعات عرقية هى البوشناق والصرب والكروات ويعيش بها مسلمون ومسيحيون ويهود وغجر وبولنديون وأوكرانيون وأتراك ولديها اقتصاد صناعى وزراعى وسياحى وأنهم أطلقوا عليها «جنة أوروبا» وأنها اكتسبت اسمها من أشهر أنهارها الذى يمر بمدن سراييفو وزينيستا ودوبوى أومن الكلمة الإيليرية « بوس» التي تعني الماء الجارى ..وأنها إحدى دول البلقان وكانت بالماضى تتبع يوغوسلافيا السابقة ولديها ساحل ضيق على البحر الأدرياتيكى وتقع بجوارها صربيا والجبل الأسود وكرواتيا وتنتشر بها الجبال والتلال واستقرت بها قديما الشعوب السلافية وأصبحت فى القرن الرابع عشر مملكة البوسنة التى خضعت بعد ذلك إلى الإمبراطورية العثمانية والتى ظلت تحكمها حتى أواخر القرن التاسع عشر ودخلها الإسلام وتم بعد ذلك ضمها للملكية النمساوية المجرية واستمرت سيطرتها عليها حتى الحرب العالمية الأولى ..وفى الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت جزءا من مملكة يوغوسلافيا وبعد الحرب العالمية ضمت لجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية وعادت بى الذكرة الى ما قرأته عن أنه فى 28يونيو 1914 قام الناشط الصربى غافريلو برنسيب باغتيال ولى عهد النمسا أثناء مرور موكبه على أحد كبارى سراييفو لتشتعل الحرب العالمية الاولى وتغزو النمسا صربيا لتتدخل روسيا وباقى القوى الأوروبية ويروح ضحية الحرب العالمية الأولى الملايين بين قتيل وجريح .


واشتعلت الحرب العالمية الثانية وبعدها انضمت البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا إلى الإتحاد اليوغسلافى وكانت البوسنة قاعدة لتطوير صناعة الدفاع العسكري مما ساهم فى تركز كبير للأسلحة والأفراد العسكريين بها وكانت دولة مسالمة ومزدهرة وذات اقتصاد قوى موجه للتصدير ونظام تعليمى جيد وأمن اجتماعي وطبي وعملت العديد من الشركات الدولية بها ونشأت فى ستينيات وسبعنييات القرن الماضى نخبة سياسية بوسنية قوية بحركة عدم الانحياز و النظام الاشتراكى ..ولكن بقاء الحال من المحال بدأ الصراع وشرع الكروات فى إبادة الصرب واليهود والغجر والشيوعيين واستمر ذلك حتى بداية التسعينات عندما تم حل دولة يوغوسلافيا الاتحادية وأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها فاشتعلت الحرب بمنطقة البلقان التي استمرت 6 سنوات ومزقت الدولة .. وبمجرد وصولنا الى مقر اقامتنا لم أشعر أننا خرجنا من مصر، ففى وسط المكان تم تعليق فانوس رمضان وقبل أذان المغرب يعلو صوت المذيع بالقرآن الكريم والأدعية وكانت المرة الأولى التى تذيع فيها إذاعة البوسنة الأذان والقرآن قبل المغرب وأتناول وجبة الإفطار ذات المذاق المصرى وأحلى بالكنافة والقطايف وأقضى الليل فى حوارات وصلاة التراويح والدعاء حتى وجبة السحور والذى يضم طبق الفول والبيض المسلوق والجبن والزبادى وأحيانا الطعمية الساخنة وكنت قد خرجت فى نهار رمضان إلى مكان توفر فيه قواتنا طعام الإفطار للمدنيين المحبوسين فى منازلهم بعيدا عن نيران الحرب وتقدم مساعدات إنسانية وطبية لهم وأسمع حكايات وقصصا عن حرب الإبادة والتطهير العرقى والتقى بفتيان من خريجى الجامعات ويتولون مهمة الترجمة لى من لغة البوسنيين للإنجليزية وكانوا أكبر عون لى عندما تم تنظيم مائدة افطار جماعية لجيراننا من أهالى البوسنة والهرسك فى أحد الأيام وشعرت بالفخر لمصريتى وانا أرى رسل السلام المصريين يقدمون يد العون على بعد مئات الآلاف من الكيلو مترات فى أقصى شمال قارة آسيا .


جرائم ضد الإنسانية!
فى عام 1990 جاءت الانتخابات بمجلس برلمانى يهيمن عليه ثلاثة أحزاب على أساس عرقى وأعلنت كرواتيا ثم سلوفينيا الاستقلال وذلك بعد البوسنة وحدث انقسام سرعان ما تطور إلى البقاء ضمن الاتحاد اليوغوسلافى أو الخروج منه وبعد فترة من التوتر اندلعت حرب مفتوحة فى البوسنة والهرسك وهاجم الصرب عدة مناطق وسعى الكروات لتوسيع حدودهم وأصبح المسلمون البوشناق هدفا وازدادت الضغوط لتشكيل جيش صرب البوسنة وهاجمت القوات التجمعات المدنية ووقعت قرى وبلدات بأيديهم واستمرت المليشيات بنهب وإحراق المنازل والممتلكات والقبض على المدنيين من المسلمين وتهجير ما يزيد على 2 مليون بوسنى واحتجِاز الرجال بمخيمات والتحفظ على النساء بمراكز اعتقال فى ظروف غير صحية واشتعال حرب الإبادة والمجازر ومنها مذبحة «سربرنيتشا» التى راح ضحيتها 200 ألف بوسنى ..ثم بدأت حملة جوية للناتو وهجوم برى للقوات المتحالفة من الكروات والبوسنيين وبعد ذلك تم التوقيع على اتفاقية «دايتون» لوقف الحرب وإنشاء هيكل الدولة وذلك بعد أن وصل عدد الضحايا 110 آلاف قتيل وأكدت محكمة العدل الدولية أن صربيا فشلت فى منع الإبادة الجماعية وما حدث في سربرنيتشا جرائم ضد الإنسانية.


قضيت باقى أيام مهمتى الصحفية بمتابعة نشاط قواتنا الإنسانى ولقاءات مع العاملين بالاغاثة الإنسانية وفرض السلام وانتهت وأنا أفتخر بها وبكل جندى وضابط مصرى شارك فيها وإعادة البوسنة والهرسك الى جنة اوروبا ودولة يلفها السلام ويحكمها القانون وما زال لى أصدقاء يتبادلون معى الأخبار والصور على «الواتس آب» وعدنا الى زغرب وقضيت فيها ليلة قبل أن نسافر إلى مطار «فرانكفورت» بألمانيا على طائرة مصر للطيران ووصلنا الى القاهرة بسلامة الله ورغم مرور مثل تلك السنوات مازلت أحمل ذكريات عن ايام قضيتها بالبلقان ترفض النسيان .