عاجل

«رؤيا» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الهادي نصيرة
الهادي نصيرة

لايزال الأستاذ أمين منكبا على إعداد دروس الغد، في ذلك الوقت المتأخر من ليلة تسربلت برداء الظلام الحالك، وصقيع الشتاء الذي يلسع الأجساد، ويوقظ آلام المفاصل من سباتها..

عليه أن يقابل تلاميذه، وهو على أتم الاستعداد لأداء وظيفته.. لا يذكر أنه أتاهم، يوما، خالي الوفاض، ولم يقف في فصله، ولو لمرة، متذبذبا، على غير دراية بما يجب عليه القيام به، تجاه عقول عطشى للعلم، والتحصيل..

لا تزال كلمات السيد خير الدين ترن في أذنه، و لا يزال أثرها باق لا تمحوه الأيام..كيف له أن ينسى وصية أبيه ومعلمه، في آن، وهو يسلمه المشعل، منذ خمسة عشر عاما؟

 السيد خير الدين أصيل تلك القرية، كان أول مدرس يباشر عمله بالمدرسة الواقعة، على مقربة من منزله. وها قد جاء اليوم،  الذي أصبح فيه ابنه أمين مدرسا بالمؤسسة نفسها..

ذات حلم، رأى المعلم الشاب صورة المغفور له والده، الذي أبلغه أنه فخور به لتحليه بخصال حميدة تثلج الصدر، وبات مديحها يسري على كل لسان. وأثنى كثيرا على تفانيه في العمل، وتواضعه في معاملة الطلاب وأوليائهم.. لا غرابة في ذلك، فقد كان والد الأستاذ أمين، أثناء مسيرته الزاخرة بالعطاء، محل احترام وتبجيل، ولا أحد كان يجرؤ على أن يصيح في وجهه، أو يتهجم عليه للمس من كبريائه، والتقليل من شأنه.. وعلى خطى الآباء سار الأبناء، إذ كانوا يرون في المدرسة تلك القلعة السامقة، التي تسمو بعلمها على كل القلاع، وفي رحابها يتألق المدرسون كالنجوم اللامعة التي ما فتئت تتلألأ بأنوار الفضيلة، وتمحو بضوئها دياجير الجهالة..

انسابت على وجنتي الأب دمعتان، حين انبرى قائلا :

« تطالعني بعض الشقوق في أحد جدران منزلك، الذي بدا لي قديما، يحتاج إلى ترميم.. إنني أعلم حجم ما تواجهه من مصاريف باهظة لأجل دراسة أبنائك، وأدرك ثقل الخصم الذي يطال راتبك الشهري، جراء ذلك القرض البنكي. لكنني أشعر بالطمأنينة، وأنا أرى أجنحة القناعة والرضا، ترفرف في فضاء حياتك الزوجية. بينما انكشف لي العكس في ما رأيت  لدى شقيقتك منال..لقد هالني ما أبصرت خارج قصرها من فخامة اللون، وروعة البنيان،  لكنني تألمت مما لمست في الداخل من برود العلاقات، ومن حياة تئن تحت وطأة الخلافات الزوجية، حتى صارت باهتة، يغشاها السكون، وخلا إيقاعها من أي أثر للحب، والدفء، والجمال..

 هكذا هي الحياة ..لقد تحول كل شيء إلى حظ ؛ فالمال حظ، والصحة حظ، والزواج حظ...والكل يصارع، دون هوادة، باحثا له عن قشة للنجاة..»

 مع حلول الساعة السابعة صباحا، يرن منبه الهاتف المحمول..يفتح الأستاذ أمين عينيه، فإذا الزوجة، كدأبها، دائما، تعد الفطور، وتهيئ الأطفال ليرافقوه إلى المدرسة...