العتبة والموسكى والوكالة.. تفتح أبوابها للجميع

المواطنون: «من فات قديمه تاه» وتوفير احتياجاتنا بأسعار مناسبة

العتبة والموسكى والوكالة.. تفتح أبوابها للجميع
العتبة والموسكى والوكالة.. تفتح أبوابها للجميع

التجار: ليست أسواقا للبسطاء فقط.. وجميع الطبقات زبائننا

الخبراء: المصريون لديهم جينات خاصة للتكيف مع الظروف 


سنوات عدة عانى العالم كله فيها من أزمات متكررة.. سياسية ومناخية وصحية، والتى أثرت بشكل مباشر على اقتصاديات الدول، ولم تكن مصر فى معزل عن كل تلك الأحداث، فقد عانت كما عانى العالم أجمع من تداعيات تلك الأزمات.


وخلال الفترة الأخيرة بدأ المواطن المصرى فى محاولة التكيف مع ما يحدث حوله من تطورات، وبحث عن حلول يوفر من خلالها أساسيات الحياة بأقل تكلفة ممكنة فلم يجد أفضل من الأسواق المصرية القديمة ليحقق مراده، ومن هنا كانت جولتنا بكل من «العتبة والموسكى والوكالة»، لرصد ما يحدث داخل الشارع المصرى.
لم تتعد الساعة الحادية عشرة ظهرا، فى يوم عمل ودراسة طبيعى، فظننا للوهلة الأولى أن نجد تلك الأسواق هادئة، إلا أنها كانت على عكس توقعاتنا، مليئة بالمواطنين بمختلف أعمارهم يتحركون فى سرعة كبيرة وكأنهم يحاولون مسابقة الوقت لشراء احتياجاتهم قبل بلوغ ساعة الذروة.
بدأنا بمنطقة «العتبة» ذلك السوق العتيق الذى لطالما اشتهر بأسعار الجملة، ولم يقتصر على الملابس فقط بل يشمل كل ما يحتاجه المنزل المصرى، فتجولنا وسط الباعة الذين علت أصواتهم فى محاولة لاجتذاب أكبر عدد من المشترين، اقتربنا من أحد المحال التى شهدت إقبالا ملحوظا لنبدأ فى التحدث مع المواطنين.


ميزانية محدودة
«من فات قديمه تاه» هكذا بدأت سيدة مرزوق، 45 عاما، حديثها معنا بعدما جاءت من منطقة المطرية لشراء احتياجات منزلها قبل بداية فصل الشتاء، فقالت لنا: «اتعودت زمان مع أمى نيجى العتبة كل موسم نشترى الصيفى والشتوى، وكانت العتبة وقتها مشهورة باللبس بس لكن دلوقتى بقى فيها من الإبرة للصاروخ».
وعن الأسعار قالت: «الواحد لما بيحسبها كل شهر بيلاقى نفسه محتاج ميزانية تانية فوق المرتب، ولو اعتمدت على الأسواق اللى حواليا مش هقدر أكمل الشهر، فباجى هنا أجيب كل اللى محتاجاه بأسعار أكيد مش النص، بس على الأقل بوفر كتير عشان أعرف أشوف بقية طلبات الأولاد».
وأضافت: «النهاردة مثلا جبت شباشب بيت لأولادى الواحد ب 15 جنيه وعندنا أقل واحد ب 35 جنيه، وريموت تلفزيون ودفايات سراير للشتا ودول بالذات تمنهم فعلا هنا أقل كتير من أى سوق.. فعلا من فات قديمه تاه».
لا تقتصر العتبة على الملابس فقط كما ذكرنا، فخلال جولتنا صادفنا زوجين فى العقد الثالث، رنا ووائل، أتيا من منطقة الهرم لشراء احتياجات أطفالهم من «سبلايز المدارس».
وقالت لنا رنا: «المدرسة طلبت حاجات غريبة زى أعداد كبيرة من المناديل، والوان طعام، ومنظفات وصابون ايد ومقصات وغيرها كتير، وطبعا دول ميزانية لوحدهم مع أنهم يعتبروا رفاهية، عشان كدا جيت انا وزوجى نجيبهم وسط طلبات البيت من المنظفات، وطبعا هنا فى العتبة فيه شارع كامل بيبيع كل المنظفات بالجملة، والزمن دا محتاج اللى يعرف يوفر عشان يقدر يعيش».
تجارة بسيطة
أكملنا جولتنا حتى وصلنا إلى حمام التلات والموسكى والذى شهد زحاما ملحوظا من السيدات والرجال على حد السواء، فتحدثنا إلى العم «عبدالرزاق أحمد» 58 عاما، والذى اصطحب معه ابنه محمود 26 عاما فى جولة يحاولان من خلالها شراء بعض البضائع لمحلهم البسيط.


فى البداية قال لنا العم عبدالرزاق: «والدى كان تاجر مانى فاتورة قديم ببيع أجهزة كهربائية لكن مع الظروف والزمن التجارة مبقتش زى زمان والصينى غرق السوق، فبدلت التجارة بتجارة المفروشات، لإنى مش موظف ومعنديش أى مصدر رزق غير محلى الإيجار البسيط، وكل فترة بنزل أنا وابنى نشترى مفروشات من العتبة بالجملة وربنا الرزاق».
وعن الأسعار قال لنا: «المكسب طبعا مش زى زمان، الأسعار غالية طبعا على الناس بس بحاول أجيب أرخص حاجة من السوق وتكون جودتها كويسة، ولما تقارنى العتبة مثلا بالمحلات الكبيرة أو المولات فأكيد الزبون البسيط هيشترى منى لانى بحط نسبة ربح بسيطة.


أما «وردة باهى» 37 عاما، ربة منزل، فأشارت إلى انها اعتادت كلما احتاجت شراء ملابس لأطفالها الثلاثة أن تتجه إلى الموسكى للشراء بسعر أقرب للجملة، وأوضحت قائلة: «عندى 3 أولاد ودايما بحاول أجيب لبسهم سواء ترنجات أو بناطيل بنص الجملة يعنى باخد 3 من كل دستة ودا بيوفر معايا كتير، الظروف وحشة والبيت أولى بكل قرش بيتوفر، دا حتى التوابل والبهارات والمفروشات لازم انزل العتبة والأزهر أجيبهم كل كام اسبوع».


عقب حديثنا مع الأهالى تواصلنا مع عدد من التجار منهم الحاج صلاح العمدة وهو أحد أقدم تجار منطقة الموسكى والذى أكد أنه بالرغم من التقدم وانتشار السوشيال ميديا والاذواق الغربية بين المواطنين إلا ان المصريين الغلابة لن يجدوا أفضل من العتبة والموسكى لشراء احتياجاتهم بأقل الأسعار خاصة إذا كان لديهم أطفال عدة.
أما ممدوح الهانى تاجر مفروشات فقال لنا: «كل الموديلات دلوقتى بقت متاحة فى حمام التلات حتى التركى المستورد والحاجات دى برا بأسعار عالية، لكن الزبون اللى مرتبه على قده وبيحاول يعيش بيجيلنا من آخر الدنيا يشترى ويوفر».
فئة جديدة
ربما يظن القارئ للوهلة الأولى أن تلك الأسواق مقتصرة على فئة محددة من المجتمع المصرى، وهى الفئة البسيطة التى تحاول المكافحة من أجل توفير قوت يومها، إلا أن ما شاهدناه بمنطقة الوكالة أثبت خطأ ذلك الظن، فخلال تجولنا فى شارع الوكالة الشهير بمنطقة بولاق أبوالعلا شاهدنا إقبالا كبيرا من مختلف الفئات والأعمار.
ومن بينهم الشقيقتان عزة وعهد العدوى، طالبتان ماجستير، واللتان جاءتا من دمياط الجديدة للدراسة هنا بالقاهرة، فتحدثتا معنا عن فرق الأسعار الكبير والصدمة التى شعروا بها حينما توجهتا إلى الوكالة، فقالت عهد: «سمعنا كثيرا عن الوكالة من الصغر وكنا نظنها للملابس المستعملة ولا يأتى لها إلا الفقراء، لكننا حينما جئنا للقاهرة صدمنا بما شاهدناه، فيوجد هنا ملابس براندات بأسعار تقل عن ربع ثمنها فى المحال العادية، فقررنا أن نأتى كل اسبوعين نشترى ملابس جديدة للجامعة».


أما عزة فقالت: «المصاريف الآن كبيرة خصوصا دراسة الماجستير وبما إننا لا نعمل فرأفة بالوالدين حاولنا أن نقتصد كثيرا ولم نجد أفضل من الوكالة وأحيانا أيضا العتبة فبها أحذية وشنط جميلة ورخيصة».


وخلال جولتنا تصادفنا بالحاجة «مرفت عبدالوهاب» من ضواحى الجيزة، جاءت بابنة أخيها لشراء عدد من الملابس الشتوى قبل الزواج، وقالت لنا: «طول عمرنا بنشترى من الوكالة هوا دا مول الغلابة اللى زينا، الجواكت هنا رخيصة وعبايات البيت كمان، مفيش عروسة اتجوزت إلا وجابت لبس خروجها من هنا وكمان بنعدى على العتبة نكمل الحاجات، ومع ان الاسعار عليت شوية لكن برضه لسة احسن من المحلات اللى فى وسط البلد».
من جانبهم أكد التجار أنه بالفعل أصبحت هناك فئات جديدة تبحث عن أرخص البدائل لها ولأولادها، فأشار كمال الفلاح، أن هناك فئات جديدة شاهدها خلال السنوات الماضية يأتون بأطفالهم لشراء الملابس موضحا أن هذه النوعية من الزبائن تعرف جيدا ما تبحث عنه وتستطيع بالفعل شراء ملابس لا تقل جودة ولا مظهر عما كانوا يشترونه من اماكن أخرى.
أما كريم العمدة أكد أن السوشيال ميديا غيرت نظرة المصريين حول الوكالة، فكانوا قديما لا يفهمون معنى كلمة «البالة» وكانوا يظنون أنها مجرد ملابس مستعملة أما الآن فهناك ماركات عالمية تأتى فى البالة بحالتها الأصلية ويسعى وراءها الزبون فى كل موسم.


ووافقه الرأى حمادة ممدوح فقد أكد أن هناك زبائن توصيه كل شهر على براندات محددة وتكون قطع نادرة تباع بأقل من ربع ثمنها فى المتاجر العالمية، هذا بجانب الزبائن المصرية الأصيلة التى ترغب فى شراء «كسوة الموسم» لأطفالها بأقل ثمن ممكن موضحا أن هناك قطعا تبدأ من 3 و10 جنيهات خاصة ملابس الأطفال، كما أن الجواكت الشتوى تبدأ من 100 جنيه وهى أسعار لا تجدها سوى فى الوكالة.
قاهر للظروف
عقب انتهاء جولتنا تواصلنا مع عدد من الخبراء، وبدايتنا كانت مع الخبير الاقتصادى د.سيد خضر الذى أوضح أن هناك ارتفاعا ملحوظا فى الأسعار خلال الفترة الاخيرة خاصة بعد تداعيات كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، مما أوصل مصر إلى أن تكون من أهم خمس دول زادت بها الأسعار، وأدى ذلك إلى حدوث خلل فى مدخلات الأسرة المصرية التى لم تعد تستطع الموازنة بين مدخلاتها ومخرجاتها لتوفير حياة سوية لأطفالها.
وأضاف أن كافة فئات المجتمع المصرى قد تأثرت بما يحدث سواء العليا أو المتوسطة أو حتى الطبقات البسيطة، فتوفير أساسيات الحياة أصبح الصداع الدائم كل ربة منزل فتحاول أن تمر بالأزمة بأقل خسائر ممكنة حتى لا يحدث تحول كبير فى نمط الحياة التى اعتاد عليها أطفالها.


وأوضح خضر أنه بالنظر إلى احتياجات الأسرة فإن بند الملابس أو احتياجات المنزل تعد منخفضة الأولوية مقارنة بالغذاء والدواء على سبيل المثال، وهو ما دفع الأسر المصرية إلى اللجوء للأسواق المصرية الشعبية للتوفير فى هذا البند لمحاولة احداث توازن فى مصروفها الشهرى، مؤكدا أن هذا الوضع سيستمر كثيرا إذا لم يتم السيطرة على الأسعار التى تزيد بطريقة غير مبررة، فهناك تجار دائما ما يستغلون الأزمات لصناعة الثروات.
وأشار خضر إلى أنه لا بد من التعاون التام بين أجهزة الدولة لإنشاء إدارة خاصة بأزمات السلع، لأن هناك فجوة بين القرارات التى تصدر وبين تنفيذها على أرض الواقع من قبل التجار، كما أن الأمر يتطلب فرض رقابة حقيقية على الأسواق، ومحاولة توفير السلع الناقصة بكمية كبيرة لإغراق السوق منعا للاحتكار.
قدرة على التكيف
من جانبه أكد د. وليد هندى استشارى الصحة النفسية، أن المواطن المصرى اعتاد من القدم أن يواجه كافة الأزمات التى تمر بها البلاد بسلاسة وسلام نفسى، فالمصرى لديه تركيبة غريبة تجعله يستطيع برغم كل الصعاب ان يتكيف مع الازمات ويجد لها حلولا يستطيع من خلالها تقليل الآثار السلبية لهذه الأزمة.


وأضاف أن المصرى خلال السنوات الماضية شعر بالزيادة الكبيرة فى ارتفاع الأسعار مما جعله يضع خططا بديلة لأسرته ومنها التوجه للأسواق الشعبية دون أن يهتم لأى نظرة اجتماعية، فالمصرى يضع سعادته وسعادة أولاده فوق كل اعتبار.


وأشار د. وليد إلى أن المواطن يقدم على هذه الحلول البديلة لعمله أولا أنها المناسبة للظروف ولثقته ثانيا فى قيادته السياسية بأن هذه الظروف مؤقتة مهما طالت، كما ان المصرى لديه تركيبة تجعله قادرا على اثبات ذاته فى مجابهة الصعاب بكل سلام نفسى.
وأنهى حديثه قائلا: «ما يحدث الآن من تكدس المواطنين فى هذه الأسواق هو أمر طبيعى ربما رأيناه بأشكال مختلفة، فالمصرى يبحث عن سعادته داخل كل ظرف صعب، مثل زوجين من طبقة يسيرة تزوجا بالمجهود الشخصى واعتادا تناول الطعام على الأرض بكل سعادة وحب لحين تحسن الأوضاع وشراء أثاث منزلى، فهكذا يتعامل كل الشعب المصرى مع زيادة الأسعار، فيلجأ لحل بديل يوفر له سعادة ورضا لحين تحسن الأوضاع».