خارج النص

سياسة بلا أخلاق.. هل هى «نهاية الغرب»؟!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

ما نشاهده فى عالم اليوم من جنون القوة، وازدواجية للمعايير أمر يدعو إلى تساؤلات كبيرة لا نجد لها إجابات شافية، وغالبا ما تكون الإجابة الجاهزة أن هذه هى طبيعة السياسة التى لا علاقة لها بالأخلاق أو القيم .


وهذا القول هو نصف الحقيقة، فهذا ما يذهب إليه أنصار المدرسة الواقعية، والذين يرون أن ممارسة السياسة يجب أن تكون منفصلة تماما عن أية قيم أخلاقية أو مثاليات تقيد العمل السياسى.


ولهذه المدرسة منظّرون وفلاسفة نشأوا فى الغرب، واستمدوا من ممارساته السياسية أساسا متينا لتبرير صحة نظريتهم، لكن هذا الفكر بدأ يواجه مأزقا كبيرا يبشر بنهاية الغرب.


نعم .. نهاية الغرب، والمصطلح ليس من عندى بل صاغه مفكرون وفلاسفة غربيون أيضا بعد تأمل عميق لمسار ذلك الغرب المتوحش المصاب بجنون استخدام القوة بغير قيود أخلاقية.


وبالطبع سيخرج من يقول إن هذا الحديث مجرد كلام فلسفى لا قيمة له، فمن يملك القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية هو من يفرض أخلاقه ويكتب التاريخ، وهذا صحيح فى جانب منه، لكنه ليس صحيحا تماما، فالقوة بغير رادع من الأخلاق تتحول إلى أداة يقتل بها الإنسان نفسه، وامتلاك الثروة دون وجود غايات أخلاقية  لها تجعل من الإنسان أسير للأداة لا مالكا لها.


وهنا يظهر النصف الآخر من الحقيقة، والتى يعبر عنها مفكرون وفلاسفة يدعون إلى ضرورة وجود أساس أخلاقى لممارسة السياسة، حتى لا تفقد بوصلتها، وتتحول إلى نوع من «العدمية» وهو التعبير الذى بدأ فى الانتشار فى كتابات العديد من المفكرين الغربيين أنفسهم.


وهنا أسوق مثالين اثنين فقط، أحدهما المؤرخ والأنثروبولوجى الفرنسى «إيمانويل تود»، الذى صدر له مؤخرا كتاب جديد بعنوان «هزيمة الغرب»، ويشير فيه إلى أن العدمية التى تجتاح الغرب نتيجة اختفاء القيم الأخلاقية والدينية من المجتمع، تؤدى إلى حالة من الفراغ الروحى والتخبط والضياع، إضافة إلى أن الذهاب بعيدا فى التحرر من القيم سيقود نحو فناء تلك المجتمعات، مستدلا على ذلك كمثال بتشريع زواج المثليين، وهو ما يرى أنه سيؤدى إلى «تهاوى الديموجرافيا» خاصة فى ظل أوضاع اقتصادية تدفع الغربيين إلى الإحجام عن الزواج والإنجاب وبناء أسرة.


إيمانويل تود الذى حقق شهرته فى الغرب كأول من تنبأ عام 1976  بانهيار الاتحاد السوفيتى وكان ذلك فى كتابه الشهير «السقوط النهائى» الذى صدر قبل أكثر من عقد على الزلزال الاستراتيجى الذى أطاح بالمارد الأحمر من قمة النظام الدولى، يرى أحد أسباب هزيمة الغرب كذلك عبر تحليله لتوجهات النخب السياسية الأمريكية، والتى يصفها فى كتابه بأنها «بلا أخلاق، ولا صلة لها بالدين، وتحب المال والحروب، لا بل لها متعة فى زرع الفوضى فى العالم».
النموذج الثانى هو المفكر والسياسى الأمريكى باتريك بوكانان صاحب كتاب «موت الغرب»، والذى حذر فيه من أن الحضارة الغربية أصبحت تواجه الانقراض والفناء لصالح أمم أخرى، إذ يشير إلى اتجاه السياسة والثقافة الغربية نحو «الجنس والمال والشهوة والسلطة، وهذا كل ما تبحث عنه أمريكا وتدور حوله»، معتبرا أن القرن الأمريكى الثانى يبشر بحالة من الكآبة والخوف على المصير، وضياع الهوية، وتحول المواطن الغربى بمرور الزمن إلى أقلية هشة فى مجتمعه المصاب بالشيخوخة، وتوقفت أممه عن التكاثر، وتراجع سكانه عن التوالد والنمو، وبدأوا بالانكماش، ولا يقل ذلك تهديداً عن الموت الأسود (الطاعون) الذى حصد أرواح ثلث سكان أوروبا قبل ستة قرون.


ولننظر إلى ما يجرى فى عالمنا الذى تهيمن الولايات المتحدة على قيادته، ولنتأمل واقع ما يجرى اليوم فى غزة، ومن قبلها ما شهدته منطقتنا إبان ما عُرف بـ»الربيع العربى»، وإشعال الحرائق حول العالم، لندرك أن التحليلات السابقة ليست مجرد أفكار فلسفية، بل واقع يؤكد أن السياسة بلا أخلاق ليست واقعية، بل انحراف يقود العالم إلى دماره، والآن يدرك الغربيون تلك الحقيقة، لكن بعدما أغرقوا الأرض فى مستنقع الفوضى والدم.