أتوموبيل الفن

مدحت عبد الدايم يكتب: ليلة حب.. لحن بليغ المفقود ودموع عبد الوهاب

مدحت عبد الدايم
مدحت عبد الدايم

إن ما حدث فى الرابع من يناير عام 1973 كان معجزة بكل المقاييس الفنية حينما وقفت سيدة الغناء العربى (30 ديسمبر 1898 – 3 فبراير 1975) على خشبة المسرح للمرة الأخيرة فى حفل عام لتشدو برائعتها "ليلة حب" وبدا أنها فى شوق إلى الغناء على الرغم من تطور مرضها، وبداية تغلبه على جسدها، كانت محاطة بالأطباء قبل أن تهبط من سيارتها "الكاديلاك" العتيقة، وشوهدت تتلقى العلاج قبل وصلتها الأولى، وفى استراحتها بعد نحو 120 دقيقة من الغناء الحلو الشجى وهى تذوب فى كل كلمة كتبها الشاعر أحمد شفيق كامل، والتف حولها الأطباء لتتلقى العلاج قبل أن تعود إلى المسرح مجددًا لتشدو برائعة بيرم التونسى والسنباطى "القلب يعشق كل جميل" كانت أم كلثوم فى تلك الوصلة الأخيرة تتشبث بالحياة وتقسو على نفسها لتظل باقية وصامدة وثابتة على خشبة الوجود.

"يا اللى عمرك ما خلفت معاد فى عمرك.. الليلادى غبت ليه حيرنى أمرك" أعادت المذهب مرة واثنتين وجددت فى أدائها ومادت حنجرتها بمواويل دافئة، وسكبت أشجانها لتطغى على الصوت المجهد، واستحسن جمهور الحضور بدار سينما قصر النيل ذلكم الأداء الهامس الحنون الشجى، المحمل بزفرات الألم وزخارف التطريب، وعلى أنغام عبد الوهاب الوثابة الرقراقة المتوهجة بنبض الحياة، راحت تغنى فى كبرياء وشموخ "يا حبيبى ونبض قلبى ونور حياته.. يا ابتسام ليلى وخياله وذكرياته" وكعادتها تابعت جماهير العروبة حفل أم كلثوم عبر أثير الإذاعة المصرية وهى لا تدرى أنها تودع حفلات الخميس الأول من كل شهر، التى دأبت كوكب الشرق على التفرد بإحيائها على مدار أربعة عقود متتالية، وجادت أم كلثوم فى تلك الوصلة بخلاصة رحيق التجربة فى ليلة لا تنسى.

"ما تعذبناش" أعادتها أم كلثوم مرة بعد الأخرى، حتى أن الموسيقار محمد عبد الوهاب فوجيء بذلك الأداء المدهش للكلمة حينما اقترب أحدهم من المسرح طالبًا إعادة المقطع، فأعادته ثانية، واسترجعته مجددًا، لكنه رجع يطالبها بإعادته للمرة الرابعة، فقالت بعفوية غنائية وهى تشير إليه "ما تعذبناش" وضجت الصالة بالتصفيق، يا لها من شخصية مرحة "بنت بلد" لا تكبر مهما تقدم بها العمر، كانت تلك "القفشة" الكلثومية فى حفل الأغنية الأول المقام بسينما قصر النيل فى السابع من ديسمبر 1972 وقبل هذا الحفل الأخير بنحو شهر واحد، وكان عبد الوهاب قد لحن لأم كلثوم قبل هذه الدرة العاشرة أغنيات: "أنت عمري" و"أمل حياتي" لأحمد شفيق كامل، و"على باب مصر" لكامل الشناوى، و"أنت الحب" لأحمد رامى، و"فكروني" لعبد الوهاب محمد، و"هذه ليلتي" لجورج جرداق، و"أصبح عندى الآن بندقية" لنزار قبانى، و"ودارت الأيام" لمأمون الشناوى، و"أغدًا ألقاك" للهادى آدم، أما أحمد شفيق فقدم لأم كلثوم خمس أغنيات، فاز عبد الوهاب بثلاث منها، واثنتين "الحب كله" لبليغ حمدى و"باسم مين" للسنباطى، وللوقوف على قصة الدرة العاشرة أعود إلى حوار مطول أجريته فى مستهل شهر مارس 2001 مع الشاعر الغنائى الكبير أحمد شفيق كامل (9 يونيو 1929- 31 أغسطس 2008) حيث ذكر لى أنه فرغ من كتابة أغنية "ليلة حب" عام 1967 وكعادته ذهب إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب وقرأ عليه كلماتها، وبعد أيام طلب منه عبد الوهاب الحضور لإجراء بعض التعديلات الطفيفة، وعرف منه أنه يعكف على إتمام اللحن ولا يدخر وقتًا فى سبيل خروجه لتقدمه أم كلثوم مع بداية الموسم الغنائى الجديد، بعد طول توقف عن الغناء فى ظل أجواء الحزن التى خيمت على الأمة فى أعقاب هزيمة يونيو 1967.

فوجيء شفيق بأن أم كلثوم ستفتتح موسمها الغنائى فى القاهرة بقصيدة "هذه ليلتي" للشاعر اللبنانى "جورج جرداق" من تلحين "محمد الوهاب" حين رأى الإعلانات المعلقة بالشوارع والمنشورة بالصحف، يقول: "جن جنونى لظنى أن عبد الوهاب قد خدعنى وأهمل تلحين أغنيتي" فما كان منه إلا أن بادر بالاتصال بالموسيقار بليغ حمدى ليلحن الأغنية ذاتها لأم كلثوم، وبعد نحو أسبوعين اتصل به بليغ ليخبره بأنه جاهز لإسماع الست لحن الأغنية، وفى الموعد المحدد بادرت الست بمخاطبة بليغ حمدي: "عندك إيه يا واد.. ياللا سمعني" ونطق عود بليغ بآيات النغم، والست تتمايل وتقول: "الله الله" إلى أن فرغ بليغ من لحنه البديع، وإذ بالست تقول بدهشة بالغة: الله عليك يا واد.. بس طبعًا مش ح أغنيها.

" ليه يا ست الكل.. فيها إيه مش عاجبك " هكذا تساءل بليغ.. وجاءته الإجابة "ما فيهاش حاجة.. بس المعلم الكبير سبقك بيها" وهنا طأطأ شفيق رأسه معتذرًا لبليغ قائلًا: "والله فكرته ركنها فى الدرج" لم يكترث بليغ وقابل الأمر بابتسامة كبيرة.. فقالت له الست قبل أن يغادر: "والله يا واد لحنك أحلى.. بس أنت عارف" وبالفعل غنت أم كلثوم "هذه ليلتي" فى الخامس من ديسمبر عام 1968، وتأخر ظهور "ليلة حب" إلى 7 ديسمبر 1972 بلحنها المبهر.. فيما بقى لحن بليغ حمدى حبيس أدراج أحمد شفيق كامل الذى رفض رفضًا قاطعًا أن يسمعنى إياه أو أكون سببًا فى خروجه إلى النور عبر الإذاعة المصرية أو الشركات الخاصة.. ولم تفلح إغراءاتى له بإهدائه مقطعًا نادرًا من أغنية "الحب كله" بصوت العندليب، فضلًا عن تقديم العندليب له على المسرح فى أعقاب أغنيته الوطنية "ذكريات" وفاءً منه لمحمد عبد الوهاب الذى كان يعشقه عشقًا كبيرًا ونادرًا، واحترمت رغبته.

وخصني أحمد شفيق بسرد كواليس درته "لبيك اللهم لبيك" وكيف تردد فى ولوج عتبات رحاب بيت الله الحرام، مستفدحًا ما اقترفه من ذنوب، ومستحضرًا عظمة الله، طامعًا فى واسع رحمته، وكيف هرع إلى عبد الوهاب بعد فراغه من أداء مناسك الحج، مقدمًا إليه تلك الدرة الخالدة وهى الأغنية الدينية الوحيدة لعبد الوهاب، الذى قال له ذات يوم عبر الهاتف: "تعالى فورًا" ليخبره بأنه سيغنى بصوته ما قد كتب، لقد أمسك عبد الوهاب بعوده وحلق فى البعيد بينما كانت دموعه تسيل على خديه وتتساقط كالندى على عوده وهو يبتهل:

"أنا فى رحابك أنا.. أنا فى الرحاب.. أنا فى رحابك يا رب يا تواب.. حبيبى يا ربى لبيتك وجيتك وعند الباب ملانى الخوف دعيتك.. وفكرت أرجع وأهرب من ذنوبى.. خجلت أعمل دا كله وأخش بيتك" وكانت المرة الأولى والأخيرة التى يرى فيها الشاعر دموع عبد الوهاب.