منى عبد الكريم.. مدينة الدواجن وفن الصدمة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

يتقن الفنان سمير فؤاد فن الدهشة النابع من قدرته على الجمع بين مفردات الجمال وفهمه العميق للقيم التشكيلية فى لوحاته ومعالجته فى الوقت ذاته لموضوعات شائكة تميل للقسوة وللقتامة أحيانا، إذ يفاجئنا فؤاد دوما بحرفيته فى الوصول لتلك المعادلة، لينتزع منك الإعجاب بصياغاته التشكيلية واللونية التى تثير البهجة، وفى ذات الوقت بتلك الصرخة التى يطلقها العمل فى وجهك..فتغادر مسكونا بالشحنة الفنية الثرية الدسمة .. وبعشرات الأسئلة التى تزرعها أعماله فى رأسك.

فى معرضه مدينة الدواجن» الذى يستضيفه جاليرى بيكاسو بالزمالك يطرح فؤاد الحكاية على لسان شهرزاد بطلته المفضلة، تلك التى اختارها بطلة لعنوان أكثر من معرض سابق أذكر منها «شهرزاد ترقص»، ثم كذلك بالإشارة إليها فى عنوان معرضه  وسكتت عن الكلام المباح» الذى جاء فى أعقاب فترة الكورونا ، فما هو أكثر إيلاما من صمت شهرزاد، صمت يجلب معه الخوف من نهاية الحكاية، ومن موت الكلام ومن بطش شهريار .. شهرزاد الفاتنة ما هى إلا رمز للمرأة التى تحمل على جسدها الغواية، وهى ذاتها التى تحمل على ذات الجسد الألم وقهر المجتمع الذكورى. 

اقرأ أيضاً| «الكتب خان»: تم منعنا من المشاركة فى معرض الكتاب

تبدأ شهرزاد الحكاية التى دونها سمير فؤاد من خياله فى كتالوج المعرض عن «مدينة الدواجن»  تلك المدينة التى امتهن أهلها بيع الدواجن فعم الرخاء وزادت ثرواتهم، فتوسعوا فى بيعها وإنتاجها قبل أن يفكروا فى استنباط سلالات جديدة إلا أن الأمور كما جاءت على لسان شهرزاد فى حكاية سمير فؤاد « لم تسر كما كان مقدرًا لها فقد تفشَّى بين السلالات المهجنه داءٌ خبيث جعلها تهاجم بعضها بعضًا كأنها صقور جوارح .. وهلع العلماء وحاولوا تكتم الأمر والسيطرة على الداء ولكنه خرج عن السيطرة .. وازداد الأمر سوءًا عندما خرج الوباء إلى مزارع الدواجن وانتشر انتشار النار فى الهشيم وامتلأت الطرقات بجثث الدواجن وراح الناس يتضرعون إلى الله فى المساجد ويجربون كل العلاجات الموجودة فى كتب الطب ويستعينون بالسحرة والمشعوذين بدون فائدة فأخذوا يذبحونها للخلاص من هذه الغمة الثقيلة وأصاب الناس الخوف والإجهاد فجحظت عيونهم وتدلت ألسنتهم وجعًا أو هلعًا».
 
اختار سمير فؤاد أن يصور دجاجاته  فى تلك اللحظة التى نراها عارية من الريش بعد الذبح، أجسام عارية متكدسة تعرينا أمام مخاوفنا، تثير ذكرياتنا بأحداث عديدة عشناها لها علاقة بتفشى وباء انفلونزا الطيور، وتفشى وباء كورونا، وبالأزمات الاقتصادية التى يمر بها العالم، والدواجن كذلك رمز متعدد الدلالات إذ تذكرنا  بالنزعة الاستهلاكية وبسيطرة رأس المال .

الدواجن ذلك الكائن المستأنس الذى عاش لفترات طويلة داخل كثير من البيوت  وعلى سطحها والذى كان رمزا للرخاء، هو ذاته الذى تحول لرمز لسيطرة رأس المال؛ لاسيما فى ذلك العمل الذى استخدم فيه سمير فؤاد حروفاً من شعار سلسلة محلات الدواجن المقلية  الشهيرة،  ليذكرنا بذلك التحول الجذرى فى التعامل مع الدواجن كسلعة استهلاكية من الدرجة الأولى لتصبح الدجاجة مثل مئات الدجاج بلا ملامح وبلا مذاق، فمذاق الأشياء ينعدم كما تنعدم الصفات الإنسانية عن كثير من الأشياء، فهل أصبح إنسان القرن الحادى والعشرين يشبه تلك الدجاجات، يدفع ثمن الأطماع دون اختيار منه.. إنها تذكرنا كذلك بالعنف الشديد الذى ينال الأبرياء الذين لا يملكون إلا الصراخ.. يؤكد سمير أننا نعيش فى وقت صعب على المستوى العالمى .. المشهد العالمى لا يعترف بالحق .. نعانى من غطرسة القوة وغطرسة رأس المال .. يتغير كذلك مفهوم الديك، فلم يعد صياحه رفيق الصباح، لا تذكرنا ديوك سمير بحكايات ألف ليلة وليلة، إنما تمثل بصريا دلالتها فى اللوحات .. فهى سوداء توازى القتامة المنتشرة، لها عرف أحمر يعبر عن الدموية والخطر.

وما بين جمل فؤاد التشكيلية ونص المعرض يتذكر سمير فؤاد فى حواره معى نصا آخر قرأه فى طفولته «مذكرات دجاجة» وهى رواية من تأليف إسحاق موسى الحسينى، صدرت طبعتها الأولى من دار المعارف فى القاهرة فى يوليو 1943 ، فالرواية تَصف حياة دجاجة عاشت فى بيت المؤلف، وتسرد ما بينهما من ألفة ومحبة، وذلك فى مقابل الدجاجات المجمدة منزوعة المشاعر التى نراها فى المعرض .. وبمقارنة بسيطة يمكننا أن ندرك حجم الفجوة  بين ما كان وما آلت إليه الأحوال، وهو ما ينسحب على موضوعات عدة ومنها حياة الإنسان فى مواجهة التكنولوجيا وهيمنة القوة والرأسمالية وغير ذلك من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تفرض وجودها على الساحة باستمرار.
 
كثير من الأشياء التى يمكن الوقوف عندها لقراءة أعمال معرض «مدينة الدواجن» بل والتى تصلح كمدخل لدراسات نقدية مستفيضة عن أعمال الفنان سمير فؤاد، ومن بينها مثلا توظيفه للإعلانات الشهيرة وامتزاجها بمدخلاتنا البصرية ودلالاتها، وبالإضافة لذلك ثمة أمر متكرر فى أعمال فؤاد يتمثل فى اقتباساته الفنية، والتى يعنى بها إعادة تقديم أعمال فنية شهيرة برؤيته، فى  هذا المعرض يعيد تقديم لوحة « جراند أوداليسك»  لأنجر إذ يطرح من خلال عمله ذلك التناقض بين فتنة الجسد العارى وقسوة النظرة، فى مسطح ملىء بالدجاجات المذبوحة العارية من الريش وفى لحظة فاصلة تكاد يمتزج فيها الجسد الإنسانى بالدجاج، وقد بدأت فكرة المعرض ذاتها برغبة فى دراسة الدجاجة بوصفها عنصر من عناصر الطبيعة الصامتة وصولا لعناصر التشابه مع تكوين الجسم الأنثوى.

فى معالجة سمير للوحة «أوداليسك» - كما يقول الفنان مصطفى رحمه فى صفحته على فيسبوك - «أضاف إليها بُضع دجاجات مذبوحة مؤكدًا لها معانً كثيرة، فحول الجمَال إلى قُبح متعمد لينقل للمتلقى صدمة أرتآها مناسبة لما نحياه». كذلك تقدم  لوحة البابا أينوسنت العاشر لفيلاسكيز وهى لوحة أعاد سمير فؤاد رسمها أكثر من مرة  بدلالات مختلفة وذلك منذ أن وقعت عيناه عليها فى الكتاب الذى أهداه إليه مدرس الرسم وهو فى السادسة عشرة من عمره، لوحة سمير فى معرض «مدينة الدواجن»  تشع - كما يضيف رحمه- «حرارة باللون الأحمر المائل إلى القرمزى والذى تتدرج كثافته فى الخلفية تماما كما يتدرج اللهب، مؤكد عن قصد، فقد أسر لى الفنان سمير فؤاد بأن باليتة ألوانه أرهقته تماما حتى يعثر على الأحمر الماثل أمام المتلقى فيحسبه أحمر وكفى، ولكن المدقق سيجد تراكم كمى لعدد من الأحمر حتى يأتى بما أراد» .. ألوان سمير فؤاد بكل معرض تحتاج لدراسة مستقلة.. فتوظيفه مثلا للون الأخضر الذى استلهمه من الأضرحة والمرتبط بالرخاء والصوفية .. يستدرج المتلقى بشعور الطمأنينة بينما يصدمه المشهد المرسوم ذاته مثيرا شعورا بالفزع.
من جهة أخرى تستدعى لوحات معرض «مدينة الدواجن» إلى الأذهان تلك الصدمة التى خلقتها لوحات معرض«لحم» الذى قدمه سمير فؤاد من أكثر من عشر سنوات والذى خرج آنذاك كصرخة احتجاج ضد القهر والتعذيب وامتهان كرامة الإنسان.

والإنسان فى لوحات « مدينة الدواجن » معذب، لا يمكن أن نغفل مشهد ألسنة أبطال اللوحات المتدلية فى لحظة اختناق أو لهاث، يثير خروجها بهذا الشكل الفزع والرغبة فى الفرار، ثم أن سمير فؤاد لا يبتعد عن أسلوبه الذى وصفه من قبل الناقد ياسر سلطان القائم على الإيهام بحركة أعماله، وهذه الحركة تعبر كما يقول فؤاد عن حركة الزمن وليست عن حركة عناصر اللوحات، والزمن هو واحد من أربعة مفاهيم أساسية حددتهم الناقدة فاطمة على من قبل بوصفها هى التى شكلت عالم سمير فؤاد وتتمثل فى  « الزمن .. الجسد.. التحولات.. والعبث » .. وهى تلك المفاهيم التى يمكن إعادة قراءة أعمال معرض « مدينة الدواجن” مرة أخرى من خلالها..