«لوحات معدنية جديدة» قصة قصيرة للكاتب محمد عبد الحافظ ناصف

صورة موضوعية
صورة موضوعية

دق الجرس

دق جرس المنبه كالعادة في السادسة صباحاً، حاولت أن أغلقه كي أنام قليلاً فقد كانت خدمتي أمام العمارة من الساعة الثانية عشرة وحتى الرابعة عشرة، لم أصعد فيها لشقتي إلا لإحضار بعض أكواب الشاي لي ولجيراني الذين يقفون معي كي نحمي الشارع من اللصوص الذين أطلق سراحهم من سجن أبي زعبل وسجن المرج، كنا نشعر أننا على مرمى نيران هؤلاء المجرمين في عزبة النخل، ولمَ لا والمسافة قريبة، عرفنا أنهم أطلقوا سراحهم كي يغيب الأمن عن بناتنا وأولادنا في البيوت والشوارع كي يختار الناس بين الاستقرار والأمن المستكين لهؤلاء الفاسدين الذين استولوا على خيرات الشعب الكادح ليلاً ونهاراً من أجل توفير لقمة العيش.

دق الجرس مرة ثانية فانتزعني من الغفلة التي كنت أود أن أستمتع بها قليلاً كي أستطيع أن أقاوم كل مشاكل العاملين في العمل وأحاول حلها قدر الإمكان كي تستمر الحياة وتستقر الأمور بعد أن انقلب الوضع بالطبع رأساً على عقب بعد 25 يناير، لم أستطع أن أبعد صورة المساجين الذين أمروا أن يتركوا السجون أو حُرروا بالقوة بعد هجوم أهلهم وذويهم وكأنهم كانوا أبرياء ولم يرتكبوا من القتل والسرقة والنصب والبلطجة وغيرها الكثير، تذكرت ما كان يفعله الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي حين كان يأمر أن تختفي الشرطة من المحروسة تماماً لما يغضب على الشعب المصري ويريد أن يعاقبه، فيأمر بإباحة مصر المحروسة لمدة ثلاثة أيام للصوص والعبيد يعيثون فيها فساداً ويفعلون ما يريدون بالشعب المصري ويسرقون ويقتلون ويغتصبون ما يشاءون من البشر والأشياء حتى يستغيث أهل المحروسة ويصعدون إلى الحاكم بأمر الله ومعهم العلماء وكبار القوم كي يسامحهم ويأمر بعودة الأمن.

تُرى هل قرأ مبارك تاريخ مصر في العصر الفاطمي أم أن وزير الداخلية هو الذي قرأ هذا التاريخ؟!

تُرى من دلهما على تاريخ هذا الحاكم الذي لا يحكم بأمر الله، ولكنه يحكم بأمر نفسه التي تسول له دائماً السوء كي ينكل بالناس وبالبسطاء ما يشاء، هل يفعل ذلك لأنه رأى الثورة والتمرد في عيون البسطاء وأفعالهم أم لا؟!

المصريون يثورون حين يتعلق الأمر بالدم أو تمس الذات الإلهية أو الدين، وإن كانوا يصبرون كثيراً، لكنهم لن يصبروا على إهدار كرامتهم كثيراً أو سفك دمائهم أو مس الذات الإلهية أو نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام أو عيسى عليه السلام، فقد ثاروا قديماً ضد حكام كثيرين وهاهم يثورون في وجه الحاكم بأمر الله ويقول له:

بالجور والظلم قد رضينا               وليس بالكفر والحماقة

فإن كنت ذا علم               فقل لنا من صاحب البطاقة

لكن الحاكم الذي ادعى الألوهية لم يستطع أن يعرف من كتب البطاقة (المنشور) المعلق في مسجده كي يعاقبه، فضحك الشعب كثيراً عليه، ولم يفهم الحاكم أن الشعب يريد: "عيش وحرية وكرامة إنسانية".

لكنه لم يستجب إلا بعد أربعة أيام كي يقول أول كلماته بعد أن ثار الشعب كله، وبعد أن سفك الدم على مرأى ومسمع من الناس في العالم كله، وصار هناك دم مسفوح وثأر بين الشعب والشرطة التي اختفت بعد أن تعرضت للهجوم كي تلوي ذراع الشعب فيصرخ الشعب طالباً نجدتها، لكنه بعبقرية لم يفعل ولم يطلبها  مرة أخرى كي تحميه لكنه حمى نفسه بنفسه وأعطته القوات المسلحة الحق في الدفاع عن نفسه في البيان الأول، فهب الجميع كي يدافع عن أهله وماله وعرضه.

 

دق الجرس

قمت فزعاً، تركت الفراش كي أستعد بحماس للذهاب إلى بنها، ترى هل سيقدر الأسطى صلاح أن يصل إلى المرج، فقد سمعت أن محاولات السرقة بالإكراه وسرقة كل السيارات الحكومية بدأت منذ يوم 28، هل يستطيع أن يصل إلي سالماً؟!

كنت أنتظر أن يرن رنة قصيرة ثم أتصل به بعد ذلك، كانت الساعة السادسة والنصف، وكان دائماً ما يرن على في السابعة ويعلمني أنه قريب من الدائري حتى أستعد، وآخذ مترو المرج الجديدة، ورغم أن الأسطى صلاح عصبي جداً ويغضب من أي شيء ولا يقبل أي شيء بسهوله من زملائه إلا أنه كان شهماً وشجاعاً وابن بلد كما يقولون وفلاح أصيل يعشق أرضه ولا يجد نفسه إلا وهو في أرضه يمسك فأسه ويبذر الحب.

وكانت سعادته الكبرى هي جمع المحصول، وكان دائماً ما يشتاق إلى لقمة الغيط البسيطة بعد كل يوم عمل شاق وكوب شاي ساعة العصر.

كان يعتبر سيارته 109/3 حكومة الصفراء الميكروباص موديل تويوتا 84 مثل بقرته الصفراء الفاقع لونها، يمسحها وينظفها ويصلحها، ويؤكد لي دائماً أنها أكل عيشه التي لن يقصر في حقها أبداً، ولو أن أي سائق آخر ركبها لكانت في علم الغيب وتكهنت، فحين تدخلها تجد فيها ما تريد، تجد كولمان للماء كي نشرب ماء بارداً زلالاً، وبعض الكتب والقرآن وسجادة صلاة، تجد ما تريده حتى تقضي رحلة سعيدة.

 

 

دق الجرس

كنت أرتدي ملابسي بينما الموبايل في الصالة يرن، أسرعت إليه متلهفاً، لم يأت بخاطري أن تلك الرنة من أحد إلا الأسطى صلاح المعتاد على تلك الرنة صباحاً، أمسكت الموبايل بلهفة وكأنني أنتظر ابني الغائب عني منذ زمن وهو يقف على بابي سليماً معافى، فتحت الخط:

-        أيوه يا عم صلاح، أنت فين دلوقت؟

-        أنا قريب من الدائري يا أستاذ، هنتظرك في نفس المكان بالمرج.

-        في المرج؟ ربنا يستر!!

-        لا تخف يا أستاذ.. ربنا الحارس، أنا جبت معايا ابني أيمن.

-        ربع ساعة وهكون في المرج.

وبدأت أرتدي على عجل ملابسي، قابلتني زوجتي حاملة كوباً من اللبن وبعض السندوتشات الفينو التي أحضرتها بالأمس بصعوبة رغم الزحمة بعد أن استغل صاحب الفرن الحدث وقلل وزن الخبز وعدده، أحذت كوب اللبن وأنا في الصالة، فتح مصطفي ابني الصغير باب حجرته، وجدته حاملاً عصاه التي كان قد أعدها ولف عليها البلستر وزينها بألوان مختلفة ولم يعد يتركها حتى وهو ذاهب لدورة المياه، أحسست أنه كبر رغم أنه ابن الثامنة وخاصة حين يبكي ويصر أن يجلس معي في الحراسة أمام العمارة في الشارع حتى يغلبه النوم، فأستأذن من الجيران وأحمله إلى الشقة وأنزل للخدمة مرة أخرى، فيبكي حين يجد نفسه في السرير في الصباح ويؤكد علي أن أتركه ينام بجواري مثل عساكر الخدمة كما يفعل جنود الخدمة في الجيش، قال لي قبل أن يدخل الحمام:

-        قلت لك يا بابا عاوز أصحى معاك.

فقلت له مبتسماً:

-        أنت الذي نمت ولا تلومن إلا نفسك يا صفصف!!

يؤكد بإصرار بعد أن يهز رأسه:

-        غداً سوف أكون متيقظاً ولن يغلبني النوم أبداً.

قلت مبتسماً:

-        إن شاء الله.

تركني ودخل الحمام، أخذت منه العصا ووضعتها على الغسالة النصف أوتوماتيك بجوار الحمام، ابتسمت زوجتي، أخذت مني كوب اللبن الفارغ وأصرت أن آكل سندوتشاً ففعلت حتى تتركني أخرج من الشقة، أسرعت إلى المترو، كانت الوجوه قلقة يعلوها الترقب والخوف، وطابور طويل من الواقفين أمام المخبز يصل حتى خمسين متراً، وآخر للسيدات أطول منه.

 

 

دق الجرس

دخلت المترو دون أن يعطلني الشاب الذي كان يصر كل يوم أن الاشتراك انتهى، وأؤكد له أن موعد انتهائه في شهر يونيو فيشك لأن التاريخ لم يكن واضحاً، كان جالساً بجوار ناظر المحطة بعد أن ضربه أحد الركاب أصر أن يدخل بدون تذكرة وهدده أن الشرطة اختفت وإن تعرض له لا دية له، ركبت القطار الذي وصل بعد دقيقة واحدة.

كانت حالة من الصمت تخيم على العربة وكأننا جميعاً ننتظر شيئاً واحداً أو نخشى شيئاً واحداً، ولمَ لا؟! والثورة في التحرير وفي ميادين مصر تشتعل بعد أن سُفك الدم بأوامر القيادة التي لم تحرك ساكناً لموت الشباب في الميدان، ولم تمنع ذلك وزيفت الحقائق وشوهت صورة هؤلاء الشبان الأطهار، وادعت أنهم جالسون في التحرير بدوافع من أصحاب الأجندات وتمولهم الدول الأجنبية.

فجأة تحدث اثنان من الركاب بهدوء ثم علت الأصوات أكثر وتحدثا في صوت واحد:

-        يرحل!!

-        ليس أحسن من ابن علي في تونس.

-        يرحل!! يرحل!!

-        لا يريد أن يفهم، ابن علي فهم بعد ثلاثة أيام، مرت ستة أيام.

قال رجل عجوز مبتسماً رغم القلق الذي يغطي وجهه:

-        العجلة دارت يا أولاد واللي فات مش هيرجع تاني.

قال شاب ملتحي:

-        الله أكبر.. الله أكبر!!

قال شاب مسيحي كان يجلس بجواري ويقرأ في إنجيله:

-        مبارك شعب مصر!!

 

 

 

دق الجرس

يقف الأسطى صلاح في سيارته التويوتا الصفراء في محطة المرج بالقرب من المترو في انتظار قدومي، كان يجلس بجواره ابنه أيمن الذي يعمل سائقاً هو الآخر، توجد حركة غير عادية، الكل يتحرك بسرعة دون تلكؤ، فجأة اقترب منه عدد من الرجال في أعمار متعددة، وقف رجل ضخم بجواره وهو جالس على عجلة القيادة، والباقون بجوار الباب يريد أحدهم أن يفتح الباب، لكنه كان مغلقاً من الداخل، قال أحدهم:

-        افتح يا أسطى، افتح يا أسطى!!

قال أيمن:

-        العربية خاصة، حكومة!!

قال واحد آخر:

-        معدش فيه حكومة، افتح!!

قال الذي بجوار العم صلاح:

-        هنديك كل واحد خمسين جنيه وإحنا ثمانية وهتودينا الفيوم يا أسطى.. إيه رأيك؟!

قال صلاح بهدوء بعد أن فكر قليلاً:

-        أنا منتظر المدير علشان نشوف مصالح الناس.

قال ثالث:

-        مدير إيه.. سيبك.. هنعطيك مائة جنيه.

قال صلاح:

-        لو ينفع كنت وصلتكم على طول، شكلكم مستعجلين قوي.

قال الذي بجواره:

-        أيوه.. إحنا جايين من المطار وعاوزين نرجع بلدنا.

قال صلاح بهدوء:

-        كان نفسي، بس مقدرش والله.

حاول أحدهم أن يفتح الباب لكنه لم يستطع، صرخ فيه أيمن ألا يفتح الباب، خبطه صلاح على قدميه بعد أن خمن من يكونون، انسحبوا جميعاً ما عدا واحد ما زال يحاول أن يفتح الباب، استوعب أيمن الموقف وفهم ما يريد أن يوصله له والده، ثم أغلق زجاج السيارة بعد أن انسحب الجميع بعيدا عن السيارة، قال له صلاح:

-        مش عارف مين دول يا أيمن؟!

-        لا!!

-        متهيألي دول مساجين هربانين من سجن المرج وعاوزين يروحوا بلدهم بأي ثمن وممكن يعملوا أي حاجة مع أي حد.

-        علشان كدا كنت بتتكلم معاهم بهدوء، وواخدهم على أكف الراحة.

-        طبعاً.

وأغلق صلاح الزجاج الذي بجواره تماماً.

 

دق الجرس

توقف المترو في محطة المرج، أسرعت نحو البوابة، لم أجد بائع الجرائد الذي آخذ منه الأخبار ككل يوم، اتجهت للمكان الذي ينتظرني فيه دائماً بجوار عربة الفول، رفعت نظري بعيداً فوجدته هناك، ملأتني الفرحة، سأستطيع أن أمر على عدد من المواقع المسئول عنها والتي تتواجد في أماكن خطرة وهي القلج والخانكة وأبو زعبل وورش أبو زعبل وبهتيم.

كانت الأخبار تتواصل أن المساجين قد هربوا من سجن المرج وسجن أبي زعبل، فكيف أطمئن على تلك الأماكن التي في مرمى نيران المساجين الهاربين، أشرت له من بعيد، فتحركت السيارة في اتجاهي ليقابلني، توقف، نزل ابنه أيمن وترك لي المكان الذي بجواره وركب خلفنا، سألني إلى أين بعد أن صافحت يده وشددت عليها بحماس ومحبة وربت على كتفه، قال بحماس:

-        على فين؟!

-        بيت ثقافة القلج.

-        بس الطريق دا سيئ جداً وخطر.

-        ربنا معانا.. خايف؟!

-        لأ.. العمر واحد والرب واحد!!

-        ربنا يسلم يا حاج صلاح.

قال ابنه بخوف:

-        ربنا يستر!!

انطلق الأسطى صلاح مخترقاً زحمة المرج الجديدة وأخذ طريق القلج الخانكة أبو زعبل بثبات رغم خوف بسيط تسرب إلى قلبه، لم يكن يخاف على نفسه لأنه إنسان مؤمن ويعرف الله جيداً، لكنه كان خائفا على ابنه الشاب الصغير الذي يعرف حماسه والذي أصر أن يأتي معه، وعلى السيارة العهدة التي يحبها تماماً مثل بقرته الصفراء الفاقع لونها، واحتمال عليَّ لأنه يحبني بصدق.

تلك المخاوف لم تؤثر فيه وأصر بداخله أن يتحرك إلى القلج رغم الخطورة الشديدة، فقد كانوا يحرقون أي شيء يخص الشرطة، وكلمة حكومة المكتوبة على السيارة تجعل الجاهل يعتقد أنها من سيارات الشرطة التي كانت هدفاً لكل الغاضبين، كما أنها كانت هدفاً للصوص والبلطجية والمساجين.

تسرب إلى قلقه رغم أنه لم يظهر أي خوف، لكن حركاته وسكناته أثناء القيادة توحي بذلك، قابلتنا سيارتان كبيرتان لنقل جنود الأمن المركزي محروقتان، وبعدهما سيارة داتسو كابينة واحدة، شعرت بقواتنا التي دمرت في حرب 67، أحسست بالخطر فنحن في طريقنا حتماً إلى طريق سجن أبو زعبل الذي نمر بجواره، ترى ما الأحوال هناك؟ كانت القلج هي القرية الأولى في الطريق، دخلنا إلى شارع بيت ثقافة القلج وأنا أتوقع أي شيء للمكان، فقد جدد حديثاً بشكل جيد وبه بعض الطمع من اللصوص وخاصة أجهزة التكييف والكمبيوتر، وصلت إلى الموقع فوجدته سليماً، ارتاح قلبي، انفرجت أسارير الأسطى صلاح وشعر بالانتصار، طلب كوباً من الشاي، أمرت مديرة الموقع الأستاذة نبيلة العامل أن يعد الشاي بسرعة، أمرتها أن الأمن لا يغادر المكان أبداً حتى تمر الأزمة، قالت إنهم أصروا على ذلك، شعرت بالسعادة، سألتها عن أحوال الطريق إلى الخانكة، قالت:

-        ليس خطراً، لكن الطريق من الخانكة إلى أبو زعبل خطر!!

-        ليه؟!

-        سجن أبو زعبل، هناك ضرب نار طوال الليل، وحاول المساجين الهجوم على بعض المنازل، ويُقال إن مع بعضهم أسلحة نارية.

 زاد القلق والتوتر على وجه الأسطى صلاح وتغير وجه ابنه تماماً، سادت حالة من الوجوم على وجه الجميع، أحضر العامل الشاي، أخذه منه صلاح وأعطاني كوباً وأعطى لابنه وبدأ يشرب ويفكر في شيء، أعرف ما يدور في ذهنه، أعرف أنه مقاتل، ولمَ لا؟ فقد كان من مقاتلي أكتوبر، ورغم عمره الكبير إلا أنه يمتلك عزيمة مقاتل، قال فجأة:

-        هنروح الخانكة، وهنروح أبو زعبل.

قال ابنه خائفاً:

-        يا ابا، بس!!

قال صلاح حاسماً الأمر:

-        خلاص يا أيمن، هنروح!!

قال أيمن صاغراً:

-        حاضر يا ابا، بس أسوق أنا العربية.

قال صلاح:

-        لأ.. أنا اللي هسوق.

أحسست أننا سوف نقاوم أي خطر طالما أن رجلاً مثل صلاح معي وابنه الذي لا يقل عنه، وأن وجود سيدة قوية مثل نبيلة سوف يمنع أي خطر عن مواقعنا المنتشرة في ربوع القليوبية.

انتهي صلاح من شرب الشاي ودعاني للذهاب دون تردد، ربت على كتفه فانفرجت أساريره.

ركبنا السيارة بحماس كبير رغم علمنا بالخطر الذي قد يقابلنا، لم يكن الطريق كعادته مزدحماً لكنه كان خالياً إلا من بعض سيارات مسرعة، شعرت بالأمان لأن الطريق من القلج للخانكة لم يكن خالياً وكان محاطاً بمساكن على الجانبين، كنت أفكر فقط في الطريق من الخانكة إلى أبو زعبل حيث المرور على الجبل الأصفر والسجن الكبير والطريق الخالي، وصلنا إلى بيت ثقافة الخانكة، وجدت المدير وبعض الرجال في القصر، ولم أجد أحداً من البنات أو السيدات، سألتهم عنهن: قال إن أغلبهن من قرى بالقرب من الخانكة وصعب وصولهن، قلت له:

-        يجب أن يحضر الرجال لحماية المكان.

فقال:

-        هذا ما يحدث بالفعل!! احترس من الكمائن التي على الطريق من بعد الخانكة.

زاد قلقي أكثر، فكرت لحظة أن نعود ثانية، لكن إصرار صلاح أن نكمل زادني حماسة لاستكمال الاطمئنان على بقية المواقع، خرجت من باب الموقع وقبل أن أركب السيارة، قال صلاح فجأة:

-        أقترح أن نرفع نمر السيارة من عليها.

سمع مدير موقع الخانكة فصرخ قائلاً:

-        صح، لأنهم كسروا سيارة للمحافظة منذ نصف ساعة، وعندي "استيكر" نضعه على كلمة حكومة التي على جانب السيارة.

قلت خائفاً:

-        الأمر خطر لهذه الدرجة؟

-        نعم.

أسرع عبد النبي إلى داخل الموقع ليحضر ما قال، وأحضر صلاح مفكاً وبدأ يفك اللوحات المعدنية للسيارة 109/3ح، اتصلت بالمحافظ كي أقترح عليه أن نرفع اللوحات فوافق على الفور وثمن الاقتراح، وعرفت أن كل سيارات المحافظة قد قامت بالفعل نفسه بعد ذلك.

عاد عبد النبي مدير الموقع وأعطى "الاستيكر" لصلاح فلصقه على كلمة حكومة وبدأنا السير.

 

دق الجرس

 

كان القلق يزداد وتضطرب أوصال صلاح كلما اقتربنا من كمين من اللجان الشعبية، فلم نكن نعرف إذا كان الكمين من اللجان الشعبية التي تعمل لصالح البلد أم من اللصوص أو البلطجية الذين يستوقفون الناس والسيارات ويسرقونهم بالإكراه، توقفنا أمام أحد الأكمنة، كانت بجوارها سيارة كابينة للمحافظة محروقة، زاد توتري، فالوجوه التي استوقفتنا ليست مبتسمة ولشباب صغير طالما أوقفنا طوال الطريق دون أي داع، سألوا:

-        على فين يا أسطى؟

نظر لابنه الذي يجلس في المقاعد الخلفية من المرآة.

-        رايحين مستشفى شبين القناطر، الواد دا عنده مغص كلوي.

صرخ أيمن وأمسك جنبه وتظاهر بالألم فاقتنع البلطجي بما تظاهر به أيمن ولم يلحظ أن العربية 109/3 حكومة، فتحوا الطريق أمام السيارة بعد أن أزالوا فرع الشجرة من أمامها، سألت صلاح:

-        لماذا قلت لهم ذلك؟!

-        فيهم واحد حرامي، وأنا أعرفه من قرية بجوارنا ويعرف أن العربية حكومة ولكنه لم يجرؤ أن يقول كلمة لأنني أعرفه وأخذته مرة للمستشفى حين طعنه أحد أصدقائه بمطواة كادت تقتله.

قلت له مبتسماً:

-        يعني الحرامي رد لك الجميل.

قال مبتسماً:

-        الحمد لله.. اعمل الخير وارميه البحر.

واصلنا المسير في أمان حتى وصلنا إلى مشارف شبين القناطر بعد أن مررنا على سجن أبو زعبل الذي كُسرت أبوابه وصار مرتعاً للناس يدخلونه وكأنه حديقة عامة حتى تجرأ اللصوص وسرقوا منه مخازن الطعام والشراب، كانت مشارف مدينة شبين القناطر مثل ضوء الفجر الذي أزال الخوف من النفوس تماماً، استندت على الشباك بعد أن فتحته لأشم بعض الهواء البارد النقي القادم من الحقول، ربت على كتف صلاح، فهز رأسه سعيداً بما أنجزه معي وأسند ابنه رأسه على المقعد الذي أمامه، راح في نوم عميق، قال صلاح بفخر:

-        كان يحرس القرية مع الشباب وأصر أن يأتي معي.

قلت سعيداً:

- ربنا يحرس كل شبابنا من كل شر، الأمل كبير!!