بوابة التجارة الدولية في عهد الهيمنة الإسلامية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

انتشر الإسلام حول شواطئ البحر الأحمر سريعا، فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، 11هجريا/ 632 ميلاديا، انتقل الإسلام إلى الضفة الأفريقية من البحر الأحمر الذى كان يعرف وقتذاك باسم بحر القلزم، فبعد دخول العرب مصر ارتحلت القبائل العربية على طول الشواطئ الغربية للبحر ناشرة الإسلام والعروبة، وصولا إلى القرن الأفريقى حيث المدخل الجنوبى للبحر الذي سرعان ما تحول إلى بحيرة عربية إسلامية، يخضع بالكامل لإشراف الدول الإسلامية، خصوصا مصر التى كان لها الكلمة الأولى والأعلى فى هذا البحر لأكثر من 500 عام.

أصبح البحر الأحمر همزة الوصل بين شطري العالم الإسلامي في آسيا وأفريقيا، فمن مصر انطلقت المساعدات لأهل الحجاز ونجد، حتى بات من فضائل مصر التى يذكرها الجغرافيون المسلمون في كتبهم أنها تمير أهل الحرمين الشريفين، كما انطلقت قوافل الحج من ميناء عيذاب المصرى على البحر الأحمر صوب أرض الحجاز لقضاء مناسك الحج، إذ جرت العادة أن تتجمع قوافل الحج القادمة من بلاد المغرب وبلاد الصحراء الكبرى والأندلس، وتتجمع كلها فى القاهرة وتتجه فى مسارين، الأول برى بالالتفاف حول البحر الأحمر وصولا إلى أرض الحجاز، والثانى بحرى عبر ميناء عيذاب للتوجه إلى جدة ومنها إلى مكة والمدينة.

ومن أشهر الذكريات التي ترتبط بمسار الرحلة إلى الحج عبر البحر الأحمر، ما يتعلق بالقطب الصوفى أبى الحسن الشاذلى، الذى لف بلاد المغرب ثم أقام فى الإسكندرية، وعندما أراد أداء مناسك الحج توجه إلى صعيد مصر صوب صحراء عيذاب، وهناك أخبر الخادم الذى كان معه أن يحمل أدوات حفر، فتعجب الخادم، فقال له الشاذلى بكل بساطة: "فى حميثرة سوف ترى"، وهناك في صحراء عيذاب فى المكان المعروف بحميثرة صعدت روح الشاذلى قبل أن يركب السفينة فى اتجاه بلاد الحجاز، واستخدم خادمه أدوات الحفر لعمل قبر للشاذلى الذى لا يزال مقامه قائما حتى يومنا هذا فى حميثرة. 

◄ اقرأ أيضًا | «النعماني»: وحدة الرنين المغناطيسي بجامعة سوهاج الأولى من نوعها بالصعيد

◄ الجانب المشرق
لكن هذا لم يكن دور البحر الأحمر الوحيد فى عهد الهيمنة الإسلامية، بل إن التجارة كانت الوجه الأكثر إشراقا وكثافة فى استخدام البحر، فالعرب حولوا البحر إلى مساحة آمنة تلتقى فيها بضائع مختلف أنحاء العالم فى هدوء وبلا عنف، وكانت البداية الحقيقية لاستخدام البحر الأحمر كطريق تجارى مع الفاطميين (حكموا مصر بين 358هـ/ 969م و567هـ/ 1171م) فى إطار المنافسة مع الخلفاء العباسيين الذين امتلكوا طريق الخليج الفارسى، فبحسب الدكتور أيمن فؤاد سيد فى كتابه (الدولة الفاطمية فى مصر تفسير جديد)، "تبنى الفاطميون فى سبيل قضائهم على العباسيين استراتيجية شرقية رأت ضرورة قيام منافسة بين طريقى التجارة المؤديين إلى الشرق الأقصى (طريق مصر البحر الأحمر، وطريق العراق الخليج الفارسي)، وهدف الفاطميون من ذلك إلى السيطرة على الشاطئين الأفريقى والعربى للبحر الأحمر، وعلى المنفذ الجنوبى المؤدى إلى الهند". 

◄ التجارة الكارمية
وبحسب الدكتور عطية القوصى، فى كتابه (تجارة مصر فى البحر الأحمر)، نجحت الاستراتيجية الفاطمية فى نقل حركة التجارة من الخليج الفارسى إلى البحر الأحمر الذى أصبح منذ القرن الخامس الهجري/ الحادى عشر الميلادى، مركز التجارة بين الشرق والغرب، وأصبحت مقاليد هذه التجارة فى يد حكام مصر من الفاطميين ثــــم الأيـوبيين والمماليك، وعندما ظهــــرت «التجارة الكارمية» فى أواخر القرن الخــامس الهجــرى، وهى تجارة الــترانزيت بين الشرق والغرب، كانت أكبر مراكزها هى عدن وعيذاب وقوص والفسطاط، وكلها كانت تخضع للهيمنة المصرية طوال العصور الوسطى، ثم حلت جدة محل عدن فى العصر المملوكى، واعتمدت أساسا على تعزيز التبادل التجارى بين الهند والعالم الإسلامى ودول أوروبا، عبر نقل التوابل والبخور الهندي، مقابل صنائع المدن الإسلامية والذهب القادم من الصحراء الكبرى، ثم تسويق هذه المنتجات كلها فى الأسواق الأوروبية المتخلفة بمقاييس العصر.

◄ الحملات الصليبية
تصدى الفاطميون أيام قوتهم لحركة القرصنة التى اتخذت من جزيرة دهلك نقطة انطلاق فى البحر الأحمر، وعندما جاءت الحركة الاستيطانية الأوروبية المعروفة باسم الحملات الصليبية، وفصلت بين مصر وبلاد الشام، وضع قادة المشروع الصليبى محاولة اختراق البحر الأحمر وصولا إلى مكة والمدينة، وهو ما حاول أن ينفذه بالفعل الصليبى رينو دى شاتيون، والمعروف أكثر بـ(أرناط)، الذى حمل السفن الصليبية إلى البحر الأحمر بهدف خبيث هو الهجوم على مكة والمدينة ونقل جثمان النبى إلى أوروبا، وبدأ رحلة نهب وسلب وتدمير للموانئ الإسلامية فى البحر الأحمر، وعلى الفور أمر السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبى حاكم مصر والشام، بإرسال أسطول مصر تحت قيادة حسام الدين لؤلؤ، لمطاردة «أرناط» سنة 579هـ/ 1183م، واستطاع الأسطول المصرى القضاء على محاولة الخبيث أرناط ودمر أسطوله وسقطت قواته بين قتيل وشريد، بينما وقع أرناط نفسه فى قبضة صلاح الدين بعد انتصار حطين، فأبر بقسمه وقتله بيديه جزاء على نيته الخبيثة بنبش قبر النبي.

◄ بحيرة إسلامية
ظل البحر الأحمر بعد ذلك بحيرة إسلامية لعدة قرون حتى ظهرت طلائع الاستعمار الأوروبى مع البرتغاليين، الذين اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح، كبديل تجارى عن طريق البحر الأحمر، وحاولت السفن البرتغالية الدخول إلى البحر ومهاجمة دولة سلاطين المماليك، واندلعت المواجهات فى نهاية القرن التاسع الهجرى/ الخامس عشر الميلادى، واستمرت إلى بدايات القرن التالى، وامتدت من البحر الأحمر إلى شواطئ الهند وحقق المماليك بعض الانتصارات وحصلوا على بعض الهزائم، لكن الغزو العثمانى للشام ومصر أنهى دورهم فى حماية البحر الأحمر، وانتقلت هذه المهمة إلى العثمانيين الذين نجحوا فى إغلاق البحر الأحمر أمام المحاولات الأوروبية لاختراقه حتى مطلع العصر الحديث.