«الهوية» في الزمن القلق.. كتاب جديد للكاتب محمد مختار الفال

موضوعية
موضوعية

التدافع سنة كونية في تواصل الحضارات الإنسانية، تحركها نوازع مختلفة وأسباب متباينة.. المنطقة العربية تعيش تناقضات وصراعات واصطفافات وانحيازات متولّد بعضها من بعض، فيها يختلط الديني بالسياسي بالأمني بالعرقي بالطائفي، وتتداخل فيها الطموحات الإقليمية مع مشاريع الهيمنة الدولية المستمرة منذ عقود، وتشتبك خيوط التجاذبات مع الأهداف الاقتصادية والتنافس على الأسواق والصراع على توسيع رقعة النفوذ. وزاد من حدة هذا «الخليط»، ثورة الإعلام الجديد، وانفجار خزان المعلومات، ومشاركة الأفراد في «صناعة» الأخبار وما يتبعها من القدرة على تلوينها بالحقائق والأكاذيب، وتوجيهها إلى ما يخدم أهداف من يبثها أو يوظفها، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، لتحقيق مقاصده.

ومنذ أكثر من مئة عام  طرح سؤال يتجدد ويتشكل في صيغ مختلفة: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نلحق بركب النهضة الصناعية الغربية، ثم الشرقية لاحقا؟. وما في بعض هذه الصفحات هو مما يثيره ويجدده ذلك السؤال المدبب الذي أريقت على طريقه الدماء قبل الأحبار.

الهوية        

وحديث «الهوية» في سطور هذا الكتاب لا يسبح في عوالم الآفاق البعيدة المتصلة بالعلاقة مع «الآخر» فقط، فهو ينظر إلى ما يجمع مع القريب كاللغة والدين والتاريخ والمصير المشترك ثم يضيق الدائرة لينظر في هوية أهل الوطن الواحد وما يعتريها من تجدد تفاعلا مع سنة التطور والتقدم. 
وسيطالع قارئ هذه الصفحات إطلالة على السؤال القديم المتجدد: من نحن وماذا نريد من الغرب، وصورتنا في عيون الآخر، ودفاعا عن مفهوم «الأمة» والهوية في أحاديث السعوديين، والتأكيد على أننا سعوديون عرب  مسلمون يرفضون «الانكفاء» على الذات إيمانا بدورهم وقدرهم. كما تطالعه إضاءات حول ما دار في حياتنا الثقافية وبعض مظاهر التحولات الاجتماعية التي صاحبت مسيرة مجتمع رافض للتصنيف والإقصاء في ظل الدولة الوطنية.

معرفة الذات        

وتدور المعالجة المحورية، في مقالات الكتاب، لتأكيد أن «معرفة الذات» و «التصالح» حول منظومة من الثوابت هي بداية الخطى الصحيحة على طريق مخاطبة الآخر.  فنحن حين «نلوم» الإعلام الغربي على تزييف صورتنا لا نستحضر الصورة التي نطالب الغرب أن يعتمدها في وسائله..  هل هي، صورة الداعين إلى الالتحاق بالحضارة الغربية شكلا ومضمونا؟  أم صورة "الاصلاحيين" دعاة التعامل مع الغرب من موقع "التعايش" والاستفادة من التقدم التكنولوجي والعلمي والمنهجي مع الاحتفاظ بذواتنا الخاصة؟  أم صورة الرافضين لهذا «البعبع» الذي اسمه الغرب والدعوة إلى التعامل معه من موقع «الشك» و «الريبة» و«العداوة» ورفض كل خير يأتي به أم يأتي معه مهما كانت الدواعي والدوافع.  

تجديد العقل   

هل نحن قوميون تقدميون ما زلنا نخوض في لجة البحث عن «تجديد العقل» راغبين في التخلص من قيد «النص» الديني؟ أم نحن عروبيون يرون أن الإسلام هو الدوحة الظليلة التي عاش تحتها العرب دون أن يضطر بعضهم إلى ترك دينه؟  أم نحن مسلمون نعيش في صحوة تدعونا إلى مجادلة الآخر بالتي هي أحسن، وتتجاوز مفاهيم شخصيتنا الإطار "العرقي" لتشمل سعة الوحدة الثقافية؟ أم نحن "إسلاميون" متهمون بتهديد سكينة العالم، لا يرون إمكانية العيش إلا غالبين أو مغلوبين؟  وهل نحن اشتراكيون يدافعون عن فلول هزيمة التجربة أم نحن رأسماليون ينشدون مثالية النظام متجاوزين عن جانبه المظلم وسوء تطبيقاته في العالم الثالث؟.. هل نحن ليبراليون غربيون أم نحن يساريون شرقيون؟. أسئلة شائلة متداخلة لم تقدم المنطقة إجابات شافية لها.

ويزعم الكتاب أن من الأسباب الأساسية لعقم الحوار ، في كثير من البيئات وضآلة محصوله ومسؤوليته  في حركة تنمية المجتمعات هو "غياب الحرية"  الذي كان من نتائجه خفوت تأثير دعاة التحديث والتنوير حين احتموا من ضغوط المزاج الشعبي العام والتيارات المقاومة لمشروعهم , بأنظمة لا تحترم الحريات ولا تقبل الرأي الآخر وتسوق الناس في اتجاه واحد، الأمر الذي  أدى إلى أن تكون دعوات التحديث "ضحية"  لمواقف غالبية دعاتها.

إحساس فطري        

ويرى أن  الحرية تعني للإنسان السوي: الإطمئنان إلى أصالة ما يعتقده استدلالاً بنص أو استرشاداً بعقل غير منفلت من ضوابط العلم، كما تعني إحساس فطري يعطي الآراء والتصرفات متعة ذاتية نابعة من أن صاحبها يملك إرادة لا توجهها ضغوط لا تتفق مع قناعاته، ومن هنا تصبح الحرية وسيلة لبناء الذات " المخلصة" التي لا تضطر إلى التلون أو التظاهر بما ليس في داخلها، وهي الذات التي تدفع الإنسان، باختياره، لإبداء رأيه الصادق في مشاركة الناس قضاياهم والاجتهاد في البحث عن علاجها. 

وهذا القرار الإختياري، هو الذي يفجرالطاقات ويطلق القدرات إلى فسيح ميادين الإباع والإبتكار،ولهذا  تلعب الحرية دورها الأصيل في تقدم الأمم ونهضة الشعوب وتضمن استمرار حركة التقدم بصورة طبيعية ، تحميها من النكسات. 
والحرية ضرورة نافعة للمجتمعات كما هي حاجة  للفرد ودافع له، إذ  تضبط سلوك الناس، على غير ما يعتقد البعض، فشعور الإنسان بحرية الاختيار وموافقته على الضوابط الاجتماعية والأنظمة المسيرة لحياة مجتمعه تجعله أحرص على التمسك بها وحمايتها والدفاع عنها ومواجهة " الإنحرافات" التي يحدثها من أعطوا الحرية لكن سوء طباعهم و فساد أهدافهم جعلهم " ينحرفون" عن ما تصالح عليه المجتمع.
ومن ثمرات الحرية أنها تهذب العقل وتدرب  النفس على الموضوعية، وتحمي أصحابها من الجنوح إلى التطرف والتشدد ، فالإنسان المتمتع بالحرية لا يتطرف - لا أتحدث عن المأزومين والشواذ  والخاضعين للابتزاز من أي نوع- في نقده للأخطاء بل يحرص على الاعتدال والاعتماد على الاستدلال بالمعلومات والمحاورة بالمنطق مع احترام نتائج العلم لأنه يحرص على أن يقف الآخرون من آرائه موقفا منصفا، في حين أن الإنسان «فاقد الحرية» يجتاحه شعور خفي بالظلم ويريد أن ينتقم من مخالفيه وكل ما حوله لاعتقاده، داخليا،أنهم شركاء في سلبه حريته وأن ما يدور حوله ليس له علاقة به. 

 والخلاصة أن الأفكار التي تدور حولها مقالات الكتاب تهدف إلى معرفة الذات والتصالح حول ماذا نريد لمجتمعاتنا وماذا نريد من الآخر المختلف، وكل ما يتصل بهذا الهدف المحوري من حرية الإرادة والقول والاختيار.