د. أشرف غراب يكتب: برلمان مصر.. لا سيادة لمسئول أو عبودية لمواطن

الدكتور أشرف غراب
الدكتور أشرف غراب

ليس عيبًا أن نُواجه أزماتنا بصدرٍ رحب، نختلف ونتفق، نتحاور ونناقش بعضنا البعض، مواطنًا ومسئولًا، شعبًا وحكومةً وقيادةً، ولتكن أروقة مؤسساتنا عنوانًا بارزًا على رُقى دولة بحجم مصر الكبيرة، الضاربة الجذور فى أعماق الأعماق، ورجالها الشرفاء الأوفياء، وهو ما يعطى رسالة واضحة للعالم بأن بلدنا بلد مؤسسات، القانون فيه سيد القرار، والشعب رقيبٌ على التنفيذ، ولا تُدار فيه الأمور اعتباطيًا بمحض الصدفة أو وقْع الأزمة.
 
لقد نزعت القيادة السياسية للجمهورية الجديدة، منذ اللحظة الأولى لتحمُّلها المسئولية، غطاء السيادة للمسئول، ولحاف العبودية والطاعة للمواطن، اللذين كانا سائدين فى عصورٍ ولَّت بلا رجعة، وفتحت نوافذ الحقوق على مصراعيه، من محاسبة المقصّر المتخازل، ومكافأة المجتهد المتفوق، وتنحية الفاسد المتواطئ، وتزكية المخلص الأمين، بل إنها منحت المجال واسعًا لجميع فئات وطوائف هذا الشعب أن يقولوا كلمتهم بلا قيودٍ ودون حجرٍ، فى كل محافل الحوار المجتمعى الذى تتعدَّد منصاته بمصر الحديثة، مع وعدٍ بالتنفيذ لكل ما يعود بالنفع على الجميع.

وإن كنت مُتحدثًا عن الأسعار وما صنعته من أزماتٍ كمواطنٍ من صُلب هذا البلد، فلا أُخفيك سرًا، عزيزى القارئ، أنها تأخذ منحنى تصاعديًا يصعب مُجاراته حاليًا، ومهما بلغت الدخول والأجور فلا قُدرة على اللحاق به أو التغلب عليه، ولقد تابعت كغيرى الاستجوابات وطلبات الإحاطة التى قدمها نواب الشعب لوزير التموين فى جلسة تاريخية أشبه بالمحاكمة، وإن شئت الدقة فقل هى محاكمة بالفعل؛ لكنها من قبيل كشف المعوقات ونقاط الضعف، فى محاولة للتصويب والإصلاح، وليس أبدًا لإصدار الأحكام وحبس الحلول وإغلاق منافذها.

لقد واجه نواب الشعب وزير التموين بما تُمليه عليهم ضمائرهم الحية تجاه من جاءوا بهم تحت قُبّته العريقة، التى ما كانت لتكون إلا لأجل المواطن ولصالحه منذ النشأة، وشهدت على مدى عقودٍ سِجالًا ونضالًا ومناقشات حادة وجادة وجلسات تصويت أثْرت حياته فى شتى النواحى، لتصدق مقولة "الشعب سيّد القرار"، وليس المسئول الذى رشّحه حزب الأغلبية، أو عيّنته الحكومة، ووضعته موضع المسئولية دون أن يكون أهلًا لها، وظن فى قرارة نفسه أنه فوق القانون والدستور، وسيظل قابعًا على الرؤوس ما بقيت وزارته، أو تفوقت جبهته.

وعودًا للجلسة الساخنة لأحد أهم الوزراء احتكاكًا بالمواطن وتقديمًا للخدمات، خاصةً تلك التى تُعنى فى الأساس بالغلابة، فلم يترك نواب الشعب صغيرة ولا كبيرة إلا ووضعوها أمام الوزير، ما بين فساد فى الوزارة وفشل فى الإدارة، واحتكار للسلع الضرورية، وبين مواطن مغلوب على أمره يتجرع مرارة الحصول عليها بعدما تم حجبها عن الأسواق، ونُدرتها فى الأماكن الخاصة بالدعم.

ما تعرض له الوزير، خلال الجلسة المخصصة له بالمجلس، كان متوقعًا بلا أدنى شك، بسبب ما شهده السوق من تذبذبٍ فى أسعار بعض السلع، ومبالغة فى قيمة أخرى، وأيضًا عدم توافر بعضها عن قصدٍ، لحاجة فى نفس تجار الأزمات والمتاجرين بأقوات الغلابة ممن يجيدون العيش على دم الفقراء المطحونين، ولكن الأغرب كان رد الوزير الذى لم يُنكر ما تم توجيهه إليه من قِبل النواب، بل إنه أخذ يتساءل أمام المجلس فى حِيرة من أمره: "ماذا أفعل فى الأسعار؟ وماذا أفعل فى السوق السوداء؟.. ماذا أفعل حيال الفساد والمنحرفين؟"، وهو ما دق مسمارًا فى نعش سياسات وخطط الوزارة الخدمية الأولى للشعب، وهى وزارة التموين، وضرب موعدًا آخر للحساب أو عقد الصلح.

إن أبسط قواعد المسئولية أن يكون المسئول حاضرًا مستيقظًا فى كل وقت، فالأزمة دائمًا مفاجئة وغير متوقعة، وتتطلب علاجًا فوريًا، ولا مجال للتنويم والتسويف فى ظل أوضاع اقتصادية عالمية شديدة التعقيد، لعوامل خارجية كلنا يعلمها جيدًا، إلا أن المواطن ازدادت معاناته أكثر تارةً بالحذف العشوائى من بطاقة التموين التى أصبحت داعمه الوحيد اليوم، ربما لتشابه اسمه مع راحل عن دنيانا أو غير مستحق للدعم من الأساس، أو نتيجة خطأ فى السيستم أثناء التحديث تارةً أخرى، وكم من الأسباب التى سِيقت عبر بوابات الشكاوى، أو من خلال وسائل الإعلام، ولم تجد ردودًا مقنعة حتى عند الوزير، الذى جاءوا به تحت القبة ليُحيطهم خبرًا عما تقوم به فلسفة وزارته، وطرح الحلول للمشكلات وليس التأكيد عليها دون حلٍ.

نعم؛ مارس مجلس النواب دوره الرقابى على أعمال الحكومة "السلطة التنفيذية"، وهى وظيفته الأهم، بجانب التشريع وصناعة وصياغة القوانين وإقرارها، وكان فى تصديه للوزير نموذجًا صحيًا لما يجب أن يكون عليه مثل هذا الكيان، الذى يمتلك تاريخًا مشرّفًا بين برلمانات العالم المختلفة، وبدت محاكمة الوزير فيه أمام نواب الشعب، وبالبث المباشر للمواطنين، أشبه بثورة على سياسات وزارته التى أخفقت فى تحقيق المأمول منها، ورفعت فى الوقت ذاته الحرج عن الحكومة، التى ما عادت تتستر على أخطاء أو تُبرر لأحد أعضائها للتنصل من المسئولية والتهرب من شرح الدوافع التى آلت إليها. 

سوف يظل الأمل معقودًا دائمًا وأبدًا على وجود برلمان قوى، يستجوب ويُناقش، ويسأل ويُحاسب، ويمنح الثقة ويسحبها، وكلها مؤشرات تجعلنا نتفاءل خيرًا فى قادم الأيام لمصرنا الحبيبة، ورسالة ردع لكل من تسوّل له نفسه العبث بقوت الشعب، ومراجعة نفسه ألف مرة؛ حتى يتجنّب المحاكمة الشعبية داخل أروقته، فضلاً عن أنها تجعل السلطة التنفيذية تمارس دورها وهى تعلم علم اليقين بأن هناك برلمانًا جديدًا يليق بمائة مليون مصرى ويزيد لديه كشف حساب، وعلى أهبة الاستعداد للمواجهة.

ولنا كلمة

أعضاء مجلس النواب؛ لقد حملتم أمانة الدفاع عن أبناء دوائركم.. لقد أثبتم بما لا يدع مجالًا للشك أنكم على قدر المسئولية وشرف التمثيل تحت قبة البرلمان الذى طالما سمعنا عنه بأنه "سيد قراره".. سِيروا على دربكم هذا ودفاعكم عن مصالح الشعب الذى حمّلكم الأمانة.