عاجل

يوميات الأخبار

صابرين وأمها .. شقيقتان !

علاء عبدالهادى
علاء عبدالهادى

هذه تفاصيل قصة وقعت بحذافيرها، باستثناء اسم البطلة

المكان : دار أوبرا دمشق.

الزمان: مساء أحد أيام شهر أبريل سنة 2004.

المناسبة: افتتاح الأسبوع الثقافى المصرى فى دمشق.

بدء وصول كبار المدعوين المصريين: الشاعر الكبير عفيفى مطر والفنان الكبير محمود عبد العزيز والدكتور أحمد عمر هاشم، وها هو الفنان السورى الكبير دريد لحام يأتى قبل الموعد بمدة كافية ليكون فى شرف استقبال أصدقائه من الفنانين المصريين.. موسيقى فرقة رضا للفنون الشعبية تصدح فى المكان، والفنان المبدع كمال نعيم يضع اللمسات النهائية على ملابس الراقصات، ويضبط حركاتهن.

كانت هذه أول مرة نلتقى فيها كوفد بأعضاء السفارة المصرية، تبادلنا «الكروت الشخصية»

محمد حسين سكرتير تانى، لدينا مشكلة فشلنا فى السفارة فى حلها، ونريد أن تنشر الأمر فى «الأخبار» لعلنا نجد لها حلا.

استكمل حديثه: لدينا فتاة سورية تقول إنها مصرية وأن والدها مصرى وأمها سورية، وهى تريد أن تصل إلى والدها هذا. أرسلنا صورة من الباسبور الذى تقول إنه لوالدها إلى مصر عبر الخارجية المصرية، واستعلمنا عن طريق وزارة الداخلية عن العنوان المدون فيه ولكن لم يكن هناك رد.. وقبل أن يسترسل فى الشرح قال: تعالى أعرفك أفضل على صاحبة المشكلة، وهى تحكى لك بنفسها. جاءت من بعيد تمشى خجلى، تتعثر فى خطاها، ملابسها بسيطة، بنطلون وقميص بسيط وفوقه جاكت أكثر بساطه لا يقى من برد دمشق.. بشرتها أقرب إلى اللون القمحى، شعرها فاحم. بيد نحيفة ثلجية الملمس سلمت على: أهلين، نورتوا دمشق .. هكذا بادرتنى صابرين.

بداية الحكاية

استكملنا الحديث بعد حفل الافتتاح، وقدمت لى صابرين-هكذا عرفتنى بنفسها – باسبور من تعتقد أنه والدها وصورة له وهو يصطاد وفى يده بندقية صيد، وصورة له وهو شاب.

إية حكايتك؟

حكايتى طويلة .. تبدأ فى السبعينات عندما سافر والدى إلى الكويت. وهناك تعرف والدى الذى عمل كموظف فى بلدية (الصخيرات) على والدتى التى جاءت هى الأخرى للعمل، وعملت بالفعل كمديرة لمنزل إحدى الأسر الكويتية.. شاهدها مرات وهى تقوم بتخليص أوراقها فى الجوازات.. لم يفكر كثيراً فى الأمر قرر أن يتزوج الفتاة التى دق لها قلبه دون حتى أن ينتظر لكى يخطبها من أهلها، ولا ان يستشر أهله فى صعيد مصر، فى إحدى قرى سوهاج، حيث العادات والتقاليد الصارمة.

لم تكن هناك مشكلة فى تجهيز المنزل، زيارة الى سوق «الحراج» قام بتأسيس شقة الزوجية بأثاث مستعمل، وأثمر هذا الزواج السريع عن فتاة كانت تشبه والدها الخالق الناطق، حزن الأب كان يتمنى ابنة بيضاء شعرها أصفر مثل والدتها، لكنها ورثت عنه لون البشرة، وحتى تقاطيع الوجه «الخالق الناطق أبوها».

شهور العسل انتهت سريعا ليأتى المرسال من سوريا، أحد المعارف أبلغ أسرة امى وكان قرارها الصارم بضرورة العودة إلى سوريا.. طلبت الزوجة من زوجها أن تسافر بقسيمة الزواج والطفلة لكى يرى والديها أنها لم تفعل شيئاً فى الحرام، وأنه زواج على سنة الله ورسوله.. حاول أن، يسافر معها لكى يقنع أهلها ولكنها أقنعته أنها ستهدئ النفوس أولا وتجهز له الجو لكى يأتى، تردد الزوج لكنه وافق بصعوبة فى النهاية، وحجز لها تذكرة سفر، ذهبت الأم، ولكنها ذهبت من غير عودة «فص ملح وذاب».

الأم تنتمى إلى قبيلة عشائرية، صارمه التقاليد، ومافعلته كان يستوجب القتل.. ولأن الفارق فى السن بين الأم وابنتها صابرين التى تزوجت المصرى لم يكن كبيراً، قرر الأب السورى أن يسجل الطفلة الجديدة باسمه وليس باسم والدها المصرى.. وأصبحت الطفلة المولودة أخت لأمها على الورق.. وشبت على هذا الاساس.. وساهم فى طمس الحقيقة أن الأسرة غيرت مكان الاقامة وانتقلت من محافظة إلى أخرى .

فى تلك الاثناء حاول الشاب المصرى أن يصل الى زوجته وابنته دون جدوى.. وجاءه مرسال عبر وسطاء: ابنتك التى كانت تربطنا بك ماتت بالحمى، وأمها لن تعود.. انساها وطلقها.
مرت سنوات ونشأت صابرين وسط أسرة تتعامل معها معاملة خاصة لاتجد لها تبريراً لم تستطع أن تكمل تعلمها لتصل إلى الجامعة، الأسرة بسيطة الحال، لا تؤمن بالتعليم العالى، يكفى البنت أن تنال من التعليم ما يساعدها على دخول سوق العمل لتنفق على نفسها، وراحت تعمل فى معمل، ودق قلبها لابن خالتها ولكن بدأت تسمع لأول مرة همزًا ولمزًا عن أصلها وفصلها لكن اختها الكبيرة التى اكتشفت مؤخراً انها أمها حكت لها الحكاية كاملة، وقالت لها أنت بنت حلال .. وهذه هى المستندات.

وضعت صابرين بين يدى باسبور والدها، وراحت تقلبه، وصوره الشخصية.. وقالت: لدى أمل أن أصل إلى والدى، وأحضنه، وأرتمى بين يديه وأبكى .. نفسى أشم رائحته، أناديه «يا ابا.. كيف ماتحكوا يامصريين» أنا مصرية صدقنى». عدت إلى القاهرة، وتحمس رئيس تحرير الأخبار أستاذنا الكاتب الصحفى جلال دويدار  لنشر القصة، بمجرد وصولى إلى مبنى الجريدة يوم النشر، وجدت الدنيا مقلوبة رأساً على عقب والسويتش يستقبل عشرات التليفونات التى تطلب كاتب قصة صابرين السورية .
ولكن جاءنى تليفون مختلف غير مجرى الأحداث :

ألوه.. التفاصيل المكتوبة اليوم فى الأخبار، والصورة المنشورة تخص والدى وإذا كانت الفتاة المنشور صورتها مع الموضوع صادقة، يبقى المفروض أنها تكون أختى.. ولكن من يؤكد لى أنها ليست نصابة أو محتالة؟ ومن أين جئت بهذه البيانات؟ ومن أعطاك الحق لتكتب عن والدى؟

قاطعت سيل الأسئلة التى راح يوجهها لى المتصل وقلت له: نحن أحرص منك ونريد أن نتأكد أصلاً أنك -سامحنى- لست نصابًا وليس العكس. وجاء الرجل إلى مكتبى.. شاب أسمر البشرة تأكدت بمطالعة الأولية لهيئته أن صابرين أخته بالتأكيد بعد أن هدأ بدأ يحكى الحكاية من زاويته .

قبل شهر مات والدى وأخر وصية أوصانا بها وهو على فراش الموت بأن نبحث عن أختنا التى أختفت وهى طفلة بعد ولادتها.. وحكى لنا الحكاية، وكيف أنه ظل يبحث عنها سنوات حتى جاءه مرسال بأنها ماتت بالحصبة.. ولكن قلبه يقول لا أنها لا زالت حية .. وأنه لازم «يلمو لحمهم».

الأب كان قد استقال بعد أن خصص تحويشة العمر لتأسيس شركة مقاولات نجحت، وتزوج من قريبة له من الصعيد وأنجب ثلاثة أبناء: ولدين وبنت، أحدهم صاحب شركة متخصصة فى بيع لوازم الغطس فى الغردقة، والآخر شارك والده فى إدارة شركة المقاولات والفتاة لازالت طالبة فى الجامعة .

أمسك الشاب بالصورة ويده ترتعش وراح يدقق فيها، طفرت عينيه بدمعة راح يداريها بسرعة.. لفت انتباهى إلى شئ : الفتاة ترتدى فى عنقها «حظاظة» جلد وملابسها بسيطة، وقال: معقولة بنت الحاج.. لا ترتدى الذهب، والألماظ ..لو أختنا بجد.. نصيبها من الميراث بملايين الجنيهات.

واتصلنا بها فى سوريا نزف لها خبر وصولها الى أسرتها .. وبدأنا التنسيق مع السفارة المصرية فى سوريا ..

اتصل الأخ بصابرين فى الرقم الذى أعطيناه له.. وتطابقت الروايات وتلاقت الذكريات.. كلمة من هنا على كلمة من هناك بدأت الكثير من التفاصيل التى خفتها الأيام تتبدى شيئاً فشئ.. مات الأب وليس على لسانه وصية سوى لحم «ابنته التى لا يعرف أراضيها».

فرحة صابرين بالوصول إلى أسرتها، وأن لها أصل وفصل لم تتغلب على غصة موت والدها الذى عاشت تبحث عنه، فإذا به يرحل قبل أن يحتضنها وتخرج به للناس وتقول هذا أبى .. بطلوا همز ولمز.. وجاء اليوم المتفق عليه وسافر الأخ الأكبر إلى سوريا برعاية السفارة المصرية، وهناك التقى الشمل بين صابرين، وأخوها من الأب .. قضى هناك عدة أيام ليتأكد بنفسه ويتعرف على الأسرة التى نشأت فها، ويستمع من والدتها.

وعاد .. لكى يعد بالتنسيق مع السفارة لكى تأتى صابرين إلى مصر .. لكى تبدأ مرحلة أثبات هويتها المصرية، وأثبات نسبها وتوزيع الميراث من جديد .. ولكن قرر الأخوة أن يحجبوا عن كاتب هذه السطور كل شئ .. «قال لى أخوها : نشكرك أن كنت سببًا فى العثور على أختنا .. إلى هنا وكفى هذه حياة خاصة يجب أن تحترمها ولا تخوض فيها مرة أخرى. عرفت من السفارة بوصول صابرين التى سعت هى إلى الإتصال بى عن طريق تليفون فى الشارع. حكت لى كيف استقبلوها، وكيف تعيش فى البيئة الجديدة .. حكت لى عن أختها التى ظهرت لها فى الدنيا فجأة، وهى على مشارف الثلاثين .. وكيف أن الغيرة بدأت تدب فى نفس أختها رغم أنها تحاول إظهار غير ذلك. انقطعت الاتصالات لشهور .. وفجأة كلمتنى صابرين هذه المرة من دمشق.
ماذا حدث؟

عدت إلى دمشق بعد ستة شهور قضيتها بين أخوتى .. حاولت أن أندمج معهم، ولكنى للأسف كنت مثل العضو المزروع فى جسد غريب.. حاولت، وحاولوا ولكن للأسف لم أرتح وأعتقد أنهم لم يرتاحوا .

سألتها : وماذا عن ميراثك؟

قالت : أعطونى أموالاً وقالوا لى «حلالك» معانا  وماتحتاجينه لن نتأخر عنك .

مرت سنوات وانقطعت الاتصالات بصابرين .

هل بقيت مع من تبقى فى سوريا .

هل ماتت مع من ماتوا فى الحرب الأهلية الضروس التى أهلكت كل شئ الشام !

هل عادت إلى حضن أخوتها ؟

أم لجأت إلى أوربا مع من هربوا من ويلات الحرب.

أنت فين يا صابرين ؟