يحلمُ مثل غيرِه حلمَه المشروعَ في إيجادِ عملٍ أو السفرِ والثراءِ. يقضي معظمَ وقتِه على سطحِ منزلِهم مع حماماتِه البيضاءِ ؛ فيخف معها ثقلُ همومِه وقهرِ العوزِ.
تخرَّج في الجامعةِ ، ولم يحصلْ على وظيفةٍ ، يقبلُ بكل عملٍ متاحٍ مهما كان ليجلبَ مالاً يساعدُ أسرتَه التي ذاقت الأمرَّين ؛ ليكملَ تعليمِه ؛ أملأ في حياةٍ كريمةٍ .. تحلقُ عيناه مع الحماماتِ في السماءِ متمتماً :
- ليت لي جناحين .
يلوي رأسَه ناظراً للأفقِ الممتدِ ، تحلقُ روحُه مع الحماماتِ البيضاءِ، تطوف أفكارُه في عالمٍ من الخيالِ الوردي الندي ؛ فتسكنَ خلجاتُ نفسِه المضطربةُ، وتنطفئ نيرانُ غضبِه البركانيةُ على واقعٍ لم تكن له يدٌ فيه، يسيرُ في الشوارعِ مُتَسكِعاً؛ تفتشُ عيناه عن أميرةِ أحلامِه؛ يتذوقُ معها شهدَ الحياةِ .
وذاتَ يومٍ ، إذا بالأرضِ تنشقُ عن شابٍ يتعثرُ فيه .. إنه صديقٌ قديمٌ قد علم منه أن الأماني مازالت ممكنةً
- اتفقنا.. غداً في المساءِ أقابلُك بهم ، وهم سوف يساعدونك على السفرِ
وعلى الرُغمِ من تأكدِه أنها هجرةٌ غيرُ مشروعةٍ ، لكنَّ كلَ شيءٍ صار مُباحاً .. ولم لا ؟ فقد فعلها الكثيرون .. فليجربْ هو أيضاً حظَه ، يقضي ليلتَه يرسمُ لأسرتِه الحلمَ ، ويمنّيهم الأمانيَ :
- إذاً نبيعُ كلَ ما يصلحُ للبيعِ ، حتى لو اضطررنا أن نستدينَ .. هي مجردُ شهورٍ قليلةٍ نتحملُ شظفَ العيشِ حتى يفيضَ نهرُ المالِ نغترفُ منه ؛ إنها أوروبا .
ويأتي اليومُ الموعودُ ؛ ليركبَ المركبَ الصغيرةَ من الشاطئ المظلمِ على أطرافِ المدينةِ الساحليةِ ، يحتضنُ آمالَه البحرُ وأحلامَ شبابٍ هو معهم، وقبلَ بزوغِ ضوءُ النهارِ ، يأمرُهم المراكبي بالقفزِ إلى الماءِ والسباحةِ ليبلغوا حُلمَهم ، وما أن وطأت أقدامُهم الشاطئ الرملي :
- لقد سرقوا حُلمَنا …
الآنَ لا مفرَ وقعوا جميعًا في فخِ سارقي الأحلامِ ؛ فينضمَ مع أقرانِه إلى قائمةِ ضحاياهم الممتدةِ ، يصلُ بيتَه ليلاً ، والناسُ نيامُ :
- لماذا لم تسافر ؟
بدموعٍ امتزجت بالحسرةِ يقصُ عليهم كيف سرقت الأطماعُ حُلمَهم
- وما العملُ .. كيف سنردُ الديونَ الثقيلةَ ...؟
تبكي الأمُ قهراً ، تسقط رأس الأبُ بينَ راحتيه لا يقوى على رفعِها ، الصغارُ يبكون عجزاً ...
تنهش أيامُ الجوعِ مِعَد أبويه والصغار ؛ يصعدُ لسطحِ منزلِهم ، ومع بزوغِ النهارِ؛ تحلقُ الحماماتُ البيضاءُ يتبعُها بعينيه ، يعتلي حافةَ السورِ ، يمطُّ جسدَه النحيفَ ، يفتحُ ذراعيه عن آخرِهما ، يمدُّ رقبتَه لأعلى ، يعلقُ ناظريه بحماماتِه البيضاءِ
المارةُ في الشارعِ ، تجمدت أقدامُهم ، و جحظت عيونُهم ؛ تنعقد ألسنتُهم .