العلم يغازل الفن| مبدعون في المختبرات ولوحات بأبحاث العلماء

محاولات لإعادة فهم نتائج العلم عبر الخيال الفنى
محاولات لإعادة فهم نتائج العلم عبر الخيال الفنى

■ كتب: رشيد غمري

فتحت بعض المؤسسات العلمية أبوابها مؤخرا أمام الفن، واستعانت بمبدعين لمحاولة فهم ووصف بعض المكتشفات والنتائج والأرقام داخل المعامل. وهو ما يخالف معرفتنا عن صرامة المنهج العلمي، وترفع العلماء عن كل ما عدا التجارب المحكمة ونتائجها الدقيقة التي تصف العالم عبر المعادلات الرياضية والقوانين، كما يناقض نظرة العلم الجامدة للكون كآلة عملاقة، يسعى العلماء لفهم كيفية عمل أجزائها.

فما الذي يحدث؟ وما حاجة العلم الذي نجح منهجه في تغيير وجه البشرية، إلى خيالات المبدعين وشطحات الفنانين؟ 

◄ بعض الحقائق العلمية تحتاج صياغة شاعرية لنفهمها

◄ الفن تأثر بالعلم وبعض العلماء عرفوا إلهام المبدعين

◄ هناك نظريات علمية لا يمكن فهمها إلا بخيال جامح

◄ المعرفة الإنسانية بين دقة العلم والرؤية الشاملة للخيال

أقام معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا بالولايات المتحدة مؤخرا دورة للعلماء والمهندسين تحت عنوان «صنع الفن للعلماء»، بهدف اكتشاف طرق جديدة لأبحاثهم وتمثيلها. وخلالها قدمت الطالبة بالمعهد «هانا فلوريس» عملا فنيا يتضمن طائرات مقاتلة مزينة بحبوب وطحالب صممتها على الكمبيوتر. وهى تدرس للحصول على الماجستير فى موضوع مزدوج يجمع بين هندسة وتكنولوجيا الطيران، والسياسة. وتبحث عن محاصيل مستدامة يمكن استخدامها كوقود للمحركات النفاثة. 

■ العلم والفن بين فصي الدماغ

◄ الفن في المعمل!
انصب اهتمام الدورة على جعل العلماء والمهندسين ينخرطون فى ممارسات إبداعية متنوعة من الرسوم الزيتية والتصميم على الكمبيوتر وصنع الأفلام وحتى الأشغال اليدوية من أجل إنتاج طرق جديدة للتعبير عن أبحاثهم وأفكارهم العلمية وتمثيلها. ويوضح القائمون عليها أنها تسمح للفن بأن يقول أكثر مما تقوله البيانات المجردة. ورغم أن الدورة مخصصة للعلماء، إلا أنها لا تقبل المبتدئين فى الفن، وتشترط للالتحاق بها أن يحرز العالم مستوى فى دراسة أحد الفنون. فما الذى يجعل العلم بحاجة إلى مجال وُصف دائما بأنه فضفاض ليعبر عن نتائج عمله الدقيق والصارم؟

«تيموثى لي» القائم على الدورة هو فنان، يقوم بالتحضير لمعرض سيقام صيف 2024 بمتحف الفنون الجميلة فى «بوسطن». وسيعرض خلاله أعماله التى تجمع بين تخصصه فى علم الأعصاب والأحياء، وبين ما درسه من فنون الاستوديو والفنون الحاسوبية. ويقول إنه كعالم أعصاب يعرف أن العلوم والفنون ينتجهما فصان من الدماغ يبدوان متناقضين فى عملهما، ومع ذلك يمكن إحداث تلقيح بينهما.

■ العلم يعيد النظر إلى العالم من منظور جمالي

«مارسيليو بارازا» باحث ما بعد الدكتوراه وأحد المنضمين للدورة، يقول إنها ساعدته على تمثيل بعض المفاهيم العددية التى كان يستعصى من قبل وصفها. وقد بدأ بالاطلاع على أعمال سابقيه في مجال تخصصه، وفهم كيف عبروا عن المفاهيم العلمية غير القابلة للوصف بشكل فني.

كذلك عمل «هاريسون كانينج» المختص بالتكنولوجيا العصبية على مشروع رسوم متحركة لتمثيل العلاقة بين موجات الدماغ والحالة الذهنية والعاطفية للشخص. واستخدم لذلك موضوعاً فنياً هو البحر بما على سطحه من مد وجزر، وما فى أعماقه من تيارات عميقة. وتقوم الرسوم بمقارنة الحالات المختلفة لشرح ما يحدث لدى الإنسان. 

■ العلماء لجأوا للفن لفهم نتائج أبحاثهم

◄ علم وخيال
ليست تلك الدورة حالة فريدة. مشروع «الفن والعلم عبر إيطاليا» هو إحدى مبادرات شبكة «إبداعات» الأوروبية، بالتعاون مع المعهد القومي للفيزياء النووية «سيرن» بجينيف. وهو يسلك النهج نفسه فى التقريب بين لغتى العلم والفن، ويتضمن زيارات علمية، وورشا فنية، ومعارض محلية، وتصفيات لمعرض وطني. كذلك سبق أن لجأ علماء الكيمياء إلى فن «الأوريجامي» الياباني، لنسخ الهياكل الطبيعية، وكأداة متعددة الاستخدامات لتصميم حلول جديدة.

■ الفن الحديث تأثر برؤية وتقنيات العلم

كما لجأ البعض إلى شرح نظريات أينشتين من خلال مجازات شعرية، لتوضيح أن الوقت نسبي، وأنه يمكن أن يمر بسرعة عندما تكون مع شخص تحبه، وببطء فى حالات أخرى. وكأن البشرية تعود من جديد إلى حقبة ما قبل العلم الحديث عندما كان أشخاص موسوعيون يجمعون بين البحث فى الطبيعة وبين الإبداع الفنى والحكمة المصاغة مجازيا.

كان ليوناردو دافينشى فى عصر النهضة يقول إنه لتنمية العقل الكامل يجب دراسة علم الفن، وفن العلم، لنتعلم كيف نرى، ولندرك أن كل شيء يرتبط بكل شيء آخر. وهو الذى اشتهر كفنان، وعالم طبيعة وأحياء ومخترع. كما كانت «ماريا سيبيلا ماريان» من القرن السابع عشر موسوعية أخرى، كونها عالمة فى الفيزياء والأحياء ورسامة. وساعدت رسومها للحشرات على تبديد النظرة التى كانت سائدة فى عصرها عن أن الحشرات تنشأ تلقائيا من تحلل الفاكهة. وفى القرن الثامن عشر لم يجد عالم الفلك الفرنسى «تشارلس ميسيه» بدا من استخدام الرسم الذى يجيده فى كتبه وأبحاثه، ليس فقط كرسوم لما يراه بالتليسكوب، ولكن لشرح وتوضيح تصوراته لأصل الظواهر الفلكية.

■ تحويل الشرائح المجهرية إلى فن

وبالرجوع بالزمن سنجد أن حكماء مصر القديمة كانوا خيميائيين جمعوا بين العلم والفنون والآداب والماورائيات. كما كانت الموسوعية سمة لعصر ازدهار الحضارة الإسلامية، ممثلة فى شخصيات مثل ابن سينا وابن حيان والخوارزمى وابن الهيثم وعشرات آخرين، كتبوا فى الفقة واللغة والبلاغة والموسيقى وبحثوا فى الفلك والفيزياء. وهو النموذج الذى انتقل إلى أوروبا عصر النهضة، قبل تبلور المنهج العلمى الصارم. ومع ذلك قال «ألبرت أينشتين أحد عباقرة العلم فى القرن العشرين: «أفضل العلماء هم فنانون».

◄ اقرأ أيضًا | 6 هدايا تلقتها الملكة من زعماء عرب..أبرزها عقد الملك فاروق الذهبي

■ طلبة وباحثون ضمن مشروع العلم والفن عبر إيطاليا

◄ روابط
يرى البعض أنه لا داعى للفصل الجامد بين العلم والفن. فرغم اختلافهما، فإنهما يبحثان عن شيء جديد لم يعرف أو يجرب من قبل. وكلاهما لا يبدأ من الصفر، ولكن يعتمدان على رؤية الأشياء من زاوية مختلفة، وإقامة روابط جديدة. وقد كان الفن الحديث سباقا فى تواصله مع العلم، بتبنيه منظورا أو منجزا علميا، تماهيا مع العصر. حاكى البعض برسوم ومجسمات ما كشفت عنه الميكروسكوبات الدقيقة داخل الجزيئات والذرات والخلايا الحية. وقدم البعض لوحات مفاهيمية حول الإنسان بوصفه آلة بيولوجية معقدة. وأدخل البعض فى أعماله المركبة حيلا كيميائية وألعابا تكنولوجية. وأنتجت الوسائط الحديثة فنونا جديدة انضمت إلى قائمة الفنون البصرية، تعتمد كليا على التكنولوجيا، وتعالج فى كثير من الأحيان القضايا من زاوية العلم. وظهر هذا فى اتجاهين رئيسيين فيما نرى، جرد أحدهما العالم من المعنى لصالح رؤية آلية للعالم، بينما استخدم الآخر المعرفة العلمية لفتح آفاق جديدة للمعنى، والتحليق فى مدارات تأملية أبعد. 

■ عمل للفنانة جانيت سعد كوك مستوحى من العلم ومنفذ بطرق مبتكرة تعتمد على العلوم

المهتمون بالعلوم يعرفون أن علماء الفيزياء صاروا يتحدثون بلغة لا تشبه الفن فحسب بل تقترب من المجازات الشعرية. ومن يستمع إلى علماء «الكمومية» سيجد نفسه أمام أوصاف لجسيم يتواجد فى مكانين فى وقت واحد، وآخر يغير طبيعته عندما يراقبه أحد، وعن أكوان متوازية فى أبعاد لا ندركها، وجسيمات لا تخضع للزمن، وأخرى ترجع فيه للوراء، وكون انبثق من نقطة، وترابط لحظى بين جسيمات يفصل بينها ملايين السنين الضوئية.

■ لوحة تجربة على طائر لجوزيف رايت أوف ديربي من القرن الثامن عشر

ومن يقرأ عن النسبية سيجد تعبيرات من قبيل الممرات الزمنية التى تختصر الوقت، وعن تجاور الأزمنة، وثقوب تلتهم الزمان والمكان. وكلها مفاهيم تحتاج إلى خيال فنى إبداعى لفهمها، وبعضها أعقد حتى من القدرة على التخيل، لذلك يجرى تبسيطها كما فى حالة نسيج الزمكان رباعى الأبعاد الذى يجرى تخيله فى هيئة نسيج مسطح من بعدين، لفهم التقعر الذى يحدث فيه بسبب الكتل الكبيرة، فيؤدى لانزلاق الكتل الأصغر نحوها، كتفسير للجاذبية. 

■ لوحة للفوتوغرافي السويسري فابيان أوفنر من عالم العلوم الطبيعية

◄ تأمل
فى رواية «لعبة الكريات الزجاجية» لأديب نوبل الألمانى «هيرمان هسه»، يجرى اختيار النوابغ الاستثنائيين من تلاميذ المدارس، وضمهم لمدارس الصفوة، حيث يتدرجون داخل إقليم تربوى متخيل يدعى «كستاليا». ومن خلال البحث الحر فى العلوم والفنون، مع طقوس تأملية، يصل بعضهم إلى قمة الهرم المعرفي، بأن يصبحوا ممارسين للعبة الكريات الزجاجية. وهى تقوم على اكتشاف العلاقات العميقة والخفية بين مقطوعة موسيقية وتصميم معمارى ومعادلة رياضية وحركة أحد الكواكب أو بين حدث تاريخى وقانون فيزيائي، ومقام موسيقي. الرواية تلفت نظرنا إلى الروابط الخفية بين كل حقائق العالم، ووقائعه عبر خيوط خفية من القوانين والمعاني. وتشير لنا نحو باطن الوجود الذى يتضافر فيه المنطق العقلانى مع الحدسى والمعنوى والشعوري. ويبدو أن العلم قد وصل مؤخرا إلى فهم أن دقة نتائجه غير كافية لفهم العالم عبر رؤية شمولية.

■ ليوناردو دافينشي مزج بين العلم وجماليات الفن

ينادى البعض الآن بضرورة دراسة العلماء للفن والتدرب عليه، لأن الخيال ضرورة كمصدر للتصور الذى لا غنى عنه لفهم المشكلات العلمية وحلها. وقد أظهرت علوم الدماغ والأعصاب أن الفن يعزز قدرات المخ، ويؤدى لتكون المزيد من الوصلات العصبية. وبالتالى يغير الطريقة التى نستوعب بها العالم. ويأمل البعض فى أن يتمكن من شرح بعض الظواهر مثل كيف تدرك بعض الكائنات العالم عبر منظومات من عيون مركبة. وإذا كان فص الدماغ الأيمن لدينا يختص بالعاطفة والإبداع الفنى والخيال، والأيسر يعنى بالتفكير المنطقى والتحليلى والعلمي، فيبدو أن البشرية تسير نحو رؤية شاملة للعالم، تجمع بين دقة العلم وسعة الخيال الفني.

■ من أعمال الموسوعي ليوناردو دافينشي في علم التشريح

■ من أعمال جين ستراك التي تقوم على الطبيعة تحت الميكروسكوب