منذ سنوات، لم تأت جوائز “جولدن جلوب” السينمائية بهذا التوافق الكبير والرضا عن الأعمال والأسماء التي توجت بها في ليلتها الـ81، وكأنها تكفر عن خطايا دورات سابقة - هكذا أراها أنا أيضا - فقد انحزت كثيرا لأغلب تلك الأعمال عندما شاهدتها، فهي مشبعة فنيا بمفرداتها وأفكارها الثرية وإجتهاد أبطالها وهم يخوضون تحدي خاص في تجسيد شخصياتهم، وآمال كتاب ومخرجين تجاوزوا المألوف، بل وكسروا حاجز العمر في تصوير أفكارهم، وكأنهم يخوضون تجاربهم الأولى لإثبات قدراتهم.
قطعا يأتي عرس “اوبنهايمر”، تلك التحفة السينمائية التي كانت لحظة التتويج بمثابة ليلة سعيدة له.
حصدت السيرة الذاتية التي كتبها وأخرجها كريستوفر نولان، عن جيه روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء الذي كان وراء مشروع مانهاتن لإختراع القنبلة النووية، عددًا من الجوائز الكبرى، بما في ذلك أفضل فيلم درامي، وأفضل مخرج، وأفضل ممثل درامي (كيليان ميرفي)، كما حصل الملحن لودفيج جورانسون على جائزة أفضل موسيقى أصلية.
حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر، حيث حصد أكثر من 950 مليون دولار في جميع أنحاء العالم، كما استحق ثناء النقاد.
ويأتي دور الملهم الأيرلندى كيليان مورفي الذي أبدع مهمته أمام الكاميرا، لا يمكنك أن تغمض عينيك عنه عندما يكون على الشاشة وهو ينقل كل لحظة ترقب، حيث أظهر قلق أوبنهايمر والتوتر في حركاته الجسدية، ومن خلال النظرة المرعبة في عينيه الزرقاوين المزعجين، قدم دور العمر بأدائه شخصية عالم الذرة ما بين عشرينياته وآخر خمسينياته، ذلك الأداء “المتفجر” المفعم بالتفاصيل والخارج من أعماقه.
المخرج كريستوفر نولان أبدع في أفضل أعماله برؤيته الاستكشافية لابتكار أسوأ سلاح موجود على الإطلاق - “القنبلة الذرية” - والعالم الذي صنعه، بفحص دقيق للأخلاق والقيم، والأنانية، والاستكشاف العلمي، والثمن والعواقب المترتبة على قول الحقيقة للسلطة، مما يجعل الجمهور يفكر في أسئلة كثيرة حول العلاقة بين العلم والسياسة والحرب والولاء والخيانة.
تأتي الممثلة ليلي جلادستون التي حصدت جائزة أفضل ممثلة في فيلم درامي، عن دورها في فيلم “قتلة زهرة القمر”، عن استحقاق وتكسب رهان سكوسيزي الذي يدهشنا بأبطاله في كل مرة، تجلت جلادستون في العديد من المشاهد، حيث جسدت البراءة والمحبة والمخدوعة بإقتدار لشخصية “مولي بوركهارت” التي تنتمي للقبيلة “أوساج”، وهو الدور الذي يجعلها تنافس على “أوسكار” هذا العام، كانت هناك العديد من المشاهد الصعبة التي لعبتها بإقتدار وبإنفعالات وتعبيرات ذكية كشفت خلالها حياة الزيف، وكانت نموذجا ملهما لطوق نجاة في سيناريو سكورسيزي وهو يضعها كخيط حرير درامي لتصوير الجرائم ضد الـ”أوساج” كمرادف لكل ما كان خاطئًا في مانيفست ديستني، بينما يحفر أيضًا بعمق في تفاصيل الحياة والثقافة والتاريخ واللغة، التي كانت في كثير من الأحيان مصدر قوة في أفلامه.
ووصفت جلادستون الجائزة بأنها “فوز تاريخي”، وأهدته إلى “كل طفل صغير في المحمية، وكل طفل صغير في المناطق الحضرية، وكل طفل صغير من السكان الأصليين لديه حلم، والذي يرى نفسه ممثلًا وقصصنا ترويها أنفسنا في كلماتنا الخاصة”.
أيضا روبرت دي نيرو الحاصل على “جولدن جلوب” أفضل ممثل في دور داعم، والذي قدم واحد من أجمل أدواره مجسدا الفراغ الأخلاقي، ويفتقر تمامًا إلى أي ملامح تعكس الندم.
دي نيرو مازال “النجم الذهبي” الذي فاق حدود التألق بكل دور يسند إليه.
وكما توقعت، فاز فيلم “تشريح سقوط” تحفة المخرجة الفرنسية جوستين تريت بجائزة أفضل فيلم دولي، فهو جاء ليمنحنا ملامح جديدة في طرحه لقصة لمثيرة مع إيقاع هادئ، وموسيقى تخفف من وطأة الصدمات الساخنة كهدف أساسي في الحبكة التي أحاطها السيناريو بالغيوم، وسط أداء رائع لأبطاله وهم يواجهون مصيرهم المجهول عقب حادث مفاجئ بمقتل الزوج.
اعترف أنني من عشاق أداء إيما ستون، ولم يكن فوزها بـ”جولدن جلوب” عن فيلم “أشياء فقيرة” سوى محطة أخرى في مدرسة الأداء العميق، لقد ألقت خطابًا ساحرًا للغاية، قائلة إنها “ستكون ممتنة إلى الأبد للقاء المخرج يورغوس لانثيموس”، ووصفت فيلمها بأنه فيلم رومانسي لكن بين الإنسان والعالم.