«الجلاد» قصة قصيرة للكاتبة آيار عبدالكريم

الكاتبة آيار عبدالكريم
الكاتبة آيار عبدالكريم

 نصف نائمة، نصف مُتيقظة، نصف حائرة، شاردة.

أنتِ حاولتِ الاستغراق في النوم، لكنك أخفقتِ. أخذتِ تُحدّقين في سقف الغرفة مراراً وتكراراً؛ تُحصين عدد الكريستالات التي تُضىء نجفة الغرفة بهذا الظلام الحالك والعتمة المُوحشة.

جسدُكِ يتقلّب في الفراش يميناً ويساراً؛ وكأن فراشكِ يعِجُّ بحشراتٍ زاحفةٍ؛ تُشعرُك بارتيكاريا عصيبة.

عقلكِ يتداعى جميع الأفكار والمخاوف في لحظة النوم هذه؛ كاد أن يُشطَر إلى شقين؛ شق يود الانسلاخ عن ذاته والرحيل بعيدا عنها، وشق آخر يأمل التجاوب مع مكنوناتها الخفية .

حاولتِ تقييد إشارات عقلكِ الكهربائية وبنات أفكاره التي أوشكتِ على الاستماع إلى زنات ذبذباته التي تشبه زن الذباب والبعوض؛ من كثرة تضاربها وتخبّطها...

لكنكِ عجزتِ عن ترويضها كفرس ثائر وكبح جماح تلك المراودات النيرة

انتقلتْ يداك فيما بعد إلى رموش عينيك. في لحظة وجيزةٍ؛ أخذت تنتفين وتنتفين الواحدة تلو الأخرى؛ و كأنك تُحاسبين ذاتكِ على كل ما تمرّين به من مواقف وأحداث حزينة.

ومع كل نتفة رمشٍ؛ تشعرين بنشوة لذيذة تدّب بجميع خلايا جسدكِ المسكين، وأوصالك وعروقك؛ شعور غريب غير  مألوف، ارتياح لذيذ من نوع خاص؛ يجعلكِ تُداومين على ذلك الفعل؛ كلما سنحت لكِ الفرصة للتفكير بهذا الظلام الحالك.

توالت النتفات حتى شعرتِ بخفة وانسيابية بعينيك؛ وكأن الرموش كانت تشعركِ بوزن وكتلة وحجم؛ ككتلة المواد، كلما فقدت المادة جزءًا من خصائصها و مواصفاتها، كلما قل وزنها والعكس صحيح.

نظرتِ إلى عينيكِ في المرآة؛ أصبحت تشبه عين الطفل المولود الباكي؛ بريئة، خفيفة، مطمئنة ؛ لا تحمل أية ذنوب أو آثام.

هذا هو دافعُكِ دوماً لمزاولة فعل النتف المروع بهذه الطريقة العصبية.

كأنك تودين أن تعود حياتك صفحة بيضاء؛ خالية من أية علامات، حروف، كلمات، أرقام ، عبارات.

كما ولدتكِ أمك، عارية تماماً.

أغضبكِ منظر الرموش حينما حاولتِ رفعها بذلك الاختراع الأنثوي الفتاك، الماسكرا، لكن هيهات هيهات. فماذا سترفعين، إذا كنتِ اقتلعتيها من جذورها، بل من أعماق أعماق الجذور.

ذهبتِ إلى صالون التجميل كي تجدين حلاً لرموشكِ المفقودة بين طيّات حياتكِ الممتلئة بالضغط العصبي.

جلستِ بجوار امرأة تقوم بصبغ شعرها، نظرت إليك هي الأخرى بتمعّن وكأنها تقوم بوضع الخيط في ثقب الإبرة الصغير، كأنها لا تصدق أن المرأة الماثلة أمامها بلا رموش..

خجلتِ، لقد اكتشفتْ منذ الوهلة الأولى فعلتك الشنعاء، أخذت تحدق في عينيك الفارغة تماماً من المنتصف، وبالكاد ترفع الماسكرا رموشكِ المتبقية؛ وكأنها مساحات زجاج سيارة، تزيل آثار زخات المطر من شتاء ديسمبر.. 

تحدثتْ إليكِ بصوت منخفضٍ؛ وكأنك اقترفتِ إثما تجاهها!

سألتكِ سؤالاً حيوياً منطقيا: هل أنتِ من تنتفين رموشكِ هكذا؟

أجبتِ بكل فتورٍ على غير عادتك: نعم.

وجهت إليكِ السؤال ثانية: أدائما تجلدين ذاتك بكل قسوة ودون رحمة بهذه الطريقة العصبية؟

:لماذا تقولين ذلك، وتلومينني هكذا؟

: يتضح ذلك من طريقة نتف رموشك بهذه القسوة والجفاء، أُجزم لكِ أن نتفكِ لرموشكِ بهذه الطريقة المرعبة ينم على شخصية حية الضمير؛ تقوم بمحاسبة ذاتها باستمرار على كل صغيرة وكبيرة؛ ما تقترفه من إثم، وما يقترفه الآخرون أيضا من آثام؟ ، بل وتجلدها كجلاد لا يرحم أحدا؛ و كأنه يثأر لذاته الضائعة.

ليس هذا فحسب؛ فأنتِ تحاسبين ذاتكِ أيضاً على نظرة الناس إليك ِ إذا كانت قبيحةً، مجردة من المشاعر، وطريقة تعاملهم معكِ أيضا، تعرفين خفايا وخبايا النفس البشرية بمهارة وجدارة.

: من أنّى لكِ كل تلك النظريات و التفسيرات؟

: أنا طبيبة نفسية ؛ وهذه طبيعة عملي، كما أنني أستطيع أن أقرأ من خلال عينيك ما تشعرين به من آلام و أوجاع، فالواضح لي أنكِ شخصية حساسة جداً لأية هفوة صغيرة...

قاطعتكما صاحبة الصالون قائلة: من الممكن استخدام زيت الخروع أو سيروم الرموش لانبات الرموش المفقودة.

نظرتِ لها نظرة ضاحكة؛ لكنكِ بقرارة نفسكِ، وجدتي الحل السحري.

رددتِ بينكِ وبين ذاتكِ هذه العبارة الحتمية: حسنا؛ الآن يمكنني جلد ذاتي بكل أريحية دون أدنى خسائر...