« سيناء عتبات الجنة101».. 8 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

 محمد نبيل
محمد نبيل

إهــــــــداء

إلى المصريات ..

الأم التي تدعوا لفلذة كبدها بالحياة الأبدية وهى تعلم الحقيقة!

.. الزوجة التي تحمل جنينا لن يرى والده أبدا وتتحول  رجلا (!)

الابنة التي ترفع رأسها فخرا لذكرى والدها…

من أجل الوطن ...

من هذا؟

وبعد أذان المغرب ينصب الصوان بشارع يوسف، وتتعالى أصوات المقرئين في صوانات متجاورة وكأنها حالة حداد شعبي، ويتوافد المعزيون إلى الصوان كل واحد منهم يرثي حاله وكأنها مصيبته هو، ويصطف الحاج إبراهيم وأبو يوسف والمقدس أبو فادي ليتقبلوا العزاء في فقيد لا يعلموا اسمه، إنما هو من المؤكد بمثابة ابن لكل منهم، وأمام الصوان تقف عربة فارهة يخرج منها شاب تبدو عليه ملامح مألوفة إنما يستبعد كل الموجودين من أهل الشارع أن يكون هو.. فيبادر هو بتعريف نفسه لمستقبلي العزاء.

أنا ابنكم مرسي ابن المرحوم داوود، وبتردد يتقبل أبو يوسف منه العزاء، ويمد إليه أبو فادي يده، فيتردد هو الآخر بدوره في مد يده إلى أبي فادي، إنما في نهاية الأمر يشد على يده متظاهرًا بالمحبة والود.

ويجلس في أول الصوان ليتصدر المشهد الجنائزي، ويستغرب الحضور جميعهم وجوده، ويبدأ في الدخول لحالة تصوف مصطنعة ويرتل مع المقرئ آيات القرآن، ويحرك رأسه يمينًا ويسارًا متأثرًا بكلام الله، ويجهش في البكاء وهو يردد مع الشيخ (وسكنتم مساكن الذين ظلموا).

 

ومع نهاية العزاء يتوجه بعض الصبية من سكان المنطقة لجارهم القديم، وتدور حوارات يملؤها الوعد بإصلاح حالهم، وأن الغد أفضل لهم من المؤكد معه ومع مشروعاته التي بدأ يوزعها على هؤلاء الشباب.

ويهمس الحاج إبراهيم لأبي يوسف: مش عارف ليه مش مرتاح للجدع ده، هو مين ده يا أبو يوسف؟

أبو يوسف: ده يا سيدي ليه حكاية كده ححكيها لك بعدين، ودلوقتي تعالي نطلع ننام والصباح رباح.. ربنا يستر على اللى جاي.. ربنا يستر.

ويذهبا ليشكرا أبا فادي لإقامته الصوان فيجداه يحاسب المقرئ، وعندما يلحظهما يسرع إليهما داعيًا الله: ربنا يجيب الخير يا إخوان إن شاء الله.

فيلفت إليه مرسي باستغراب ويتمتم مع نفسه إخوان.. ها ها.. لا إله إلا الله.. ويضرب بكف على الأخرى ويضحك بصوت عالٍ يلحظه الجميع، ويفسد الصورة الحزينة التي ارتسمها أثناء العزاء.

ومبكرًا تذهب فاطمة إلى عملها فتعترضها سيارة مرسي وهى تعبر من رصيف منزلها للمقابل حتى تلامس أصابعها منزل يوسف، كأنها ترسل إليه سلام الصباح.. ووسط الشارع يقف في تبجح مرسي طالبًا منها أن يوصلها لعملها، فتصدم للوهلة الأولى لمشاهدته: أنت.. مرسي أنت عايش!.. سبحان الله افتكرناك مت ولَّا غرقت.. عمومًا شكرًا أنا عارفة طريقي لوحدي ومتعودة عليه، من فضلك وسع وسيبني في حالي.

مرسي: كده برضه.. أنتِ نسيتِ زمان ولَّا إيه؟

فاطمة: لسه ما تغيرتش.. أنت مش عايز تنسى زمان.. بعد إذنك.

وتنتفض في مشية غاضبة مرسلة إليه بتأكيدات ثقتها في نفسها.

ويرد مرسي وهو يفرك بلحيته: معلش بكره كله يتغير ويبقى فيه زمان غير الزمان وناس غير الناس.

وتتابع فاطمة طريقها الذي بدأته من بعد مغرب أمس، فتقابل رجل الأمن الذي أدلت له بكل مخاوفها ووساوسها تجاه القناة التي تعمل بها، وتوجساتها تجاه القائمين عليها، وهى اليوم تتسلم بعض المهام لتؤديها على مدار يوم العمل بالقناة.

 

وتتوجه إلى مقر عملها وهى تلوم نفسها هل ما قامت به صحيح؟ هل كان يجب عليها مشاورة خطيبها يوسف، لماذا لم تتذكر أن تسرد حكاية مرسي العائد من المجهول؟ أسئلة حائرة في ذهن فاطمة ربما أولها لماذا أقحمت نفسها في هذا الأتون الذي لا تعلم مغبة التورط فيه؟

للمرة الأولى تشعر أنها لا تريد أن تعمل في هذه القناة، وللمرة الأولى تتذكر تلك السيدة القوية أم الشهيد يسرى عندما زارتها مع يوسف في المحلة؛ هذه السيدة القوية والعظيمة التي تتقبل الواقع وتصبر أمام ضراوة الفراق، هل تلك المرأة المصرية هى النموذج، وهل أنا أيضًا أستطيع أن أضحى من أجل وطنى؟ على الأقل أنا من الممكن أن أضحى بنفسى، تلك تضحية أقل بكثير من تضحية الأم بوليدها، هذا هو المؤكد إذا أنا على صواب، وسيغفر لى يوسف عندما يعلم بوطنية ما أقوم به.. نعم من المؤكد أنه سيتفهم الأمر جيدًا.

 

ترتعش وهى توزع أجهزة التسجيل الميكروسكوبية في مكاتب مَن تلقت بياناتهم من رجل الأمن، ويومًا بعد يوم تكتسب جرأة وخبرة في التعامل ببرود ودون انفعال، وأشعرت الجميع بأهمية وحدة خطيبها وأنها غير مكترسة بما سيحدث له، لأن ما بينهما ليس إلا فرصة زواج جيدة.. وبدأت تلك الحكايات بأسلوب غير مباشر تصل إلى زملائها، حتى وصلت لرئيس التحرير ولمدير القناة، ولأنها على علاقة بصيد مهم بالنسبة للذئاب فقد تودد إليها رئيس التحرير بمكافآت متتالية وإطراءات عديدة لهمتها وإتقانها لعملها، ولم يحاول التقرب أكثر من ذلك، بل أوفد إليها بدلا منه زميلها أمجد محرر البارنيوز، الذي واظب على إرسال ابتسامات هادئة كل صباح، ثم افتعل نقل مكتبه معها في نفس حجرة المكتب، ليكون قريبًا من ترجماتها لبرقيات وكالات الأنباء الأجنبية، لأنها الأهم كمصدر أخبار للقناة، وبدأ يركز على الحديث عن وحدة خطيبها ومدى أهمية الالتحاق بالجيش من عدمه، وبين الحين والآخر يعزمها على الشيكولاتة التي تحبها عندما رآها في يديها مرارًا، فأبدى اهتمامًا بها، وفي أثناء إحدى زيارات الوفود المختلفة لمكتب مدير القناة شاهدت مرسي ابن شارعها يستقبله مدير المحطة بإطراء شديد وحفاوة بالغة.

 

هى ما زالت تبلغ رجل الأمن على مدار الأسبوعين الماضيين بكل ما تشاهده وتلحظه، ولكنها عندما تحدثت هذه المرة عن مرسي الذي نسيته من قبل أثناء لقائها المنصرم إذا برجل الأمن يسرد حكايته كاملة، وينبهها إلى أهمية التعامل بحذر مع هذا الرجل، لأنه يستطيع بحنكة أن يظهر ما لا يبطنه، وأن يتجاوز الانفعالات الإنسانية بمهارة.. تتعجب فاطمة لكنها تقول منذ أن توفي والداى وأخي في حادثة أليمة وأنا أكره هذا الرجل ولا أعرف السبب، ولا أعتبر تقدمه لخطبتي أثناء مرحلة الثانوية العامة سببًا يجعلنى أكرهه، إنما.. تسرح فاطمة وتُفاجأ بكلمات رجل الأمن: فاطمة لازم تاخدي تارك من مرسي.

فاطمة: في استغراب شديد (تاري).. تقصد إيه؟

يستدير رجل الأمن بكرسيه مطلًّا من نافذته الزجاجية على نيل التحرير.. الكلام اللى حتسمعيه الآن كان لازم تعرفيه من زمان، إنما ده الوقت المناسب.. مرسي داوود شاب فقير متوسط التعليم، سكن مع والديه - وهو وحيدهما - بالشارع الذي تعيشين فيه، وكانا والداه عقيمين، ولظروفهما الصعبة ماديًّا اقتنعا بحالهما بعد زيارات الأولياء والأضرحة والمدافن والمشعوذين، وغابا عن المنطقة شهورًا وعادا برضيع ادعيا أنه طفلهما، وبارك أهل الشارع المولود وأغدقوا بالعطايا على أسرة داوود،

وبعد سنوات كبر مرسي وأنهى دراسة الدبلوم الفنى، واشتغل في مهن عدة لم يفلح في أى منها، أشار على والديه بأن يبيعا دكانهما الصغير ويأخذ ثمنه للسفر إلى إيطاليا علَّه يجد فرصًا أفضل، إلا أنهما رفضا تمامًا، وأمام إصراره على السفر ورفض والديه سرق محل أبي فادي وهرب إلى الإسكندرية محاولةً منه في السفر غير الشرعي إلى إيطاليا، وأثناء غيابه اضطر والداه أن يبيعا الدكان البسيط لسداد الدين لأبى فادي، لكن الشاب عاد متلصصًا في فجر يوم علم أن والديه قد ماتا كمدًا عليه، فقرر أن ينام في المسجد فاختطفه إمام الزاوية وأقنعه بأنه هو أبوه الجديد، وأعطاه مالًا وفيرًا يكفيه لمدة شهر، غاب عن الشارع هذا الشهر وعاد للإمام يطلب من أبيه الجديد، فما كان منه إلا أن طلب منه الانضمام لشباب إحدى الجمعيات، وهم يتدربون جميعًا في منطقة نائية بصحراء الوادي الجديد، وتم مراد الأب الجديد ونفذ الابن بالتبني كل ما يتلى عليه وتعلم الطاعة، وبعد عدة عمليات اغتيال أرادوا أن يكافئوه بطلبه الوحيد وهو الزواج منك أنتِ يا فاطمة، فتقدم مع إمام الزاوية لوالدك الذي رفض رفضًا باتًّا لشكه في سلوك مرسي، بل وعنَّفه على الجرأة بمثل هذا الطلب، فتصرف - للمرة الأولى- مرسي دون استئذان من شيخه ووالده الجديد، وكلف أحد معاونيه المخلصين بسرقة سيارة نقل، والتخطيط للتخلص من أسرتك ظنًّا منه أن شعورك بالوحدة قد يدفعك للموافقة على الارتباط به، وعندما استقل والداك وأخوك أحد التاكسيات؛ قطع سائق النقل الطريق عليهم وصدم التاكسى، وقتل معهم سائق التاكسي، واستطاع بعض قائدي السيارات ملاحقته والقبض عليه وتسليمه إلى الشرطة التي بدأت معه إجراءات تحقيق موسعة،

انهار واعترف بكل آثامه وحُكِم عليه بالإعدام، وأثناء الإجراءات قامت أحداث 25 يناير وهرب من السجن، وترك ملابسه بجوار جثة سجين متفحمة كان أغلب الظن أنها كانت لسجين آخر، واختفي القاتل وربما اختبأ بمعرفة مرسي الذي اختفى هو الآخر، والآن بعد أربع سنوات يظهر وكأن شيئًا لم يكن.. ويتوقف رجل الأمن من استطراده على بكاء هستيري لفاطمة التي عزمت أمرها على تسليمه للأمن مقتولًا.. وهنا ذكَّرها رجل الأمن بوعد كانت قد قطعته على نفسها لصالح الوطن وقسمًا أشهدت الله عليه.. تركها قليلًا وعاد إلى المكتب وجدها أشد قوة مما عرفها، وقالت له الأوامر دلوقتي إيه سيادتك؟..

وبدآ سويًّا في تفهم الخطة الموضوعة بدقة، فليس المهم مرسي فحسب، إنما مَن هم وراؤه أيضًا.