«عاشت فماتت».. قصة قصيرة للكاتبة مارا أحمد

مارا أحمد
مارا أحمد

كنت أتصفح الفيسبوك بصفحة المفقودين، ومنحني التصفح جرعة مكثفة من الحزن والألم والشعور بالمسئولية تجاه كل طفل تم خطفه أو استخدامه في التسول أو السرقة أو الدعارة أو التجارة بالأعضاء؛ لتتصدر ذاكرتي تلك الفتاة.

كنا أطفالا نلعب في حارتنا وبداخلنا أحلام لا تحدها سماوات ولا حدود مدينة، كنا نرافق الطين والحشرات والبرك والطيور والحيوانات، كانت بيننا وبين مفردات الطبيعة علاقات تتراوح بين التكافل والتآلف والقرابة، كلنا نقترب من الأرض والطين بل وما تحت التراب.

السماء بالنسبة لنا سقف يحمينا من الغيب ويطلعنا على أسراره أحيانا، بل كانت البراح الذي يحتضن أحلامنا، وتبتسم لطفولتنا، وكأنها كانت تترفق بنا، بعد أن لفظتنا الدساتير ومنظمات حقوق الإنسان.

فإذا بها تمر أمامي، فتاة لم تتجاوز العشرين بكثير، سمراء ممتلئة القوام ذات شعر أشعث تحك بأصابعها به كثيرا، فهناك ما يتغذى على قاذوراته ويستعمر رأسها. ذات بطن منتفخة كما وأنها ابتلعت خروفا أو ربما طفلا، كنا صغارا لا نعي أن بطن المرأة ينتفخ حين توشك أن تكون أما، فأبدا لا تنتفخ البطون شبعا في الحواري الخلفية.

كانت تترنح في مشيتها، فظننا أنها قد تجرعت زجاجة بيرة ملقاة بالحارة مما شربها الشباب بعرس الأمس.

لم تكن تتحدث لغة نفهمها؛ فهي تتلعثم بكل الحروف، تعاني لتنطق كلمة تعبر عن جوعها، لم تتعمد التسول، هي فقط جائعة.

ملابسها متسخة ممزقة ذات رائحة كريهة، فلا شك أن الماء لم يلمس جسدها منذ شهور، بل ربما لأعوام. ترتدي فوق جلابيتها بالطو مهلهلا أثقلته الأوساخ الملتصقة بقماشه، فكان يسقط من كتفها وتسنده بذراعها المعتل، منحه لها شخص ما قد رأف بها من البرد.

فجأة وصل إلى أسماعنا جملة حملها إلينا الهواء والتنصت الذي يدفعه الفضول لأن نفهم: من هي؟ ولماذا لا تعرف كيف تنظم جملة عربية نفهمها؟ ولم انتفاخ بطنها؟

لنعرف أنها تعاني من التأخر العقلي، لكنها تسمع وتنطق القليل جدا من الكلمات.

والأكثر وجعا، أن هناك من هتك عرضها مستغلا نومها في العراء مفترشة الرصيف،

فاستدرجها بلقمة أو بنومة في الدفء بعيدا عن سياط البرد وقرصة الجوع ليغتصب إنسانيتها ويسرق منها عذريتها ويفسد الشيء الوحيد الذي وهبته لها السماء سليما وهو رحمها، ثم يلقي بها في الشارع بعد أن حرمها من حريتها وجسدها ورحمها الطاهر. والذي يحتضن الآن طفلا لا يعرف أحد أو حتى هي: من أباه؟ حتى من أغتصبها ربما لم يكن الوحيد الذي اقتحم جسدها.

نصحو يوما وننزل كعادتنا إلى الشارع لشراء احتياجات البيت واللعب، فيدفعنا فضولنا لأن نتحسس عنها خبرا، لنعرف أنها تعثرت في ولادتها ليلا وهي تنام جوار الجامع، فحاول رجل -خرج ليصلي الفجر- أن يقدم لها يد المساعدة فنقلها إلى المستشفى العام فلقيت حتفها متأثرة بتعثر ولادتها والتلوث.

حاولنا أن نعرف مصير وليدها ونوعه، فلم نجد لدى أي من أفراد حارتنا إجابة.

ماتت وتركت بداخلي بل بداخلنا جميعا نحن كأطفال -أعتدنا اللعب دون خوف أو توقع لشر– صدمة ورعبا من الغد والقدر والبشر.

 راحت وأخذت معها ضحكتنا بل ولحظات الأمان والسلام التي كنا نعيشها بين جدران بيوتنا وأحضان آبائنا، بل وفقدنا الثقة في حارتنا، وشارعنا الممتد بعيدا ليحتوي لصوصا ومغتصبين يتنقلون بيننا بلا وجع ضمير أو رأفة، أمسينا نخاف البيت ونخاف الحارة والجيران والغد، أذكر أنني قاطعت اللعب وطفولتي بعد ذلك الحدث.

وتركت صورتها بداخلي سؤالا كاد يسلبني اليقين: لماذا جاءت هذه الفتاة إلى الدنيا، وماذا أخدت منها؟ فهي لم تستعر حتى اللذة!

تلخصت حياتها في كلمتين: "عاشت فماتت"

اقرأ أيضًا| «فرصة ثانية» قصة قصيرة للكاتبة الدكتورة إيمان سيد إسماعيل