خواطر الإمام الشعراوي .. سلامة العقل

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى فى تفسير الآية 219 من سورة البقرة حول قوله تعالى:«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ».

بقوله: لقد كانت بداية الحكم فى أمر الخمر أن أحداً من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائياً، وجاء ليصلى، فقال: «قُلْ يا أيها الكافرون * أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» وبعدها نزل تأديب الحق بقوله:« يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ..» «النساء: 43». وفى ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر ألا يقربها، فالإنسان الذى يصلى صدر عليه الحكم ألا يقرب الصلاة وهو سكران، فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فلا يقرب الخمر حتى يصلى الصبح، ويقترب الظهر فيستعد للصلاة، ثم العصر بعد ذلك، ويليه المغرب فالعشاء، أى لن يصبح عنده وقت ليشرب فى الأوقات التى ينتظر فيها الصلاة، إذن فلا تصبح عنده فرصة إلا فى آخر الليل، فإذا ما جاء الليل يشرب له كأساً ثم يغط فى نومه. ويكون الوقت الذى امتنع فيه عن الخمر أطول من الوقت الذى يتعاطى فيه الخمر. ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع، حدثت بعض الخلافات والمشكلات التى دفعتهم لأن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهم حكماً فاصلاً فى الخمر فنزل قوله تعالى: «ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ» «المائدة: 90-91». فقالوا: انتهينا يا رب. إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على الإنسان عقله؛ لأن العقل هو مناط التكليف للإنسان، وهو مناط الاختيار بين البدائل، فأراد الحق أن يصون للإنسان تلك النعمة. إن هدف الدين فى المقام الأول سلامة الضرورات الخمس التى لا يستغنى عنها الإنسان: سلامة النفس، وسلامة العرض، وسلامة المال، وسلامة العقل، وسلامة الدين. وكل التشريعات تدور حول سلامة هذه الضرورات الخمس، ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ من سلامة العقل، فسلامة العقل تجعله يفكر فى دينه. وسلامة العقل تجعله يفكر فى حركة الحياة. وسلامة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض. إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التى تدور حولها هذه المسألة، والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يخمر الإنسان عقله بأى شىء مُسكر. حتى لا يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس. وقد جمع الله فى هذه الآية التى نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر، وهو جل وعلا يريد أن يحمى غفلة الناس. فلعب الميسر يتمثل فى صورته البسيطة فى اثنين يجلسان أمام بعضهما البعض، وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما فى جيب الآخر، فأى أخوة تبقى بين هؤلاء؟ إن كلاًّ منهما حريص على أن يعيد الآخر إلى منزله خاوى الجيوب فأى أخوة تكون بين الاثنين؟ ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر فى صورة الأصحاب، ويحرص كل منهما على لقاء الآخر، فأى خيبة فى هذه الصداقة؟! ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله، يأخذ ماله ويبقى على صداقته، والعجيب الأكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر. ولو لاحظت حياة هؤلاء الذين يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بلا احتياط ولا ينتفعون أبداً بما يصل أيديهم من مال مهما كان كثيراً، لماذا؟ لأن المال حين يُكتسب بيسر، يُصرف منه بلا احتياط، هذا هو حال من يكسب، أما بالنسبة للخاسر فتجده يعيش فى الحسرة والألم على ما فقد، وتجده فى فقر دائم، وربما اضطر إلى التضحية بعرضه وشرفه، إن لم يبع ملابسه، وأعز ما يملك، ويحدث كل ذلك بأمان زائفة، وآمال كاذبة يزينها الشيطان للطرفين، الذى كسب والذى خسر، فالذى كسب يتمنى زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر، والذى خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب. وعندما يتعود الإنسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه، ويعتاد أن يعيش على الكسب السهل الرخيص، وحين لا يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس. وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل فى المجتمع، فهم الذين يرتشون ويسرقون ويعربدون، ولا أخلاق عندهم وليس لهم صاحب ولا صديق، وبيوتهم منهارة، وأسرهم مفككة، وعليهم اللعنة حتى فى هيئتهم وهندامهم. ولذلك قال الحق: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ  قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا» وما دام الإثم أكبر من النفع، فقد رجح جانب الإثم. هذا فى العملية الذاتية، أما فى العملية الزمنية فقد قال سبحانه: «لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى» «النساء: 43». وبعد ذلك أنهى سبحانه المسألة تماما بقوله الحق: «يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «المائدة: 90».