« كرامة» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

نبيل هو وحيد والديه، في أسرة شديدة الفقر .. لم يكن لأفرادها من الطعام ما يكفيهم.. وإذا ما توفر القليل منه لسد رمق الجوع، كانت الأم راجحة تعطي نصيبها لابنها الوحيد، وهي تقول : « كُلْ ياولدي!  فأنا لست جائعة »..

 شاء القدر أن تترمل تلك المرأة، في سن الأربعين، فوقعت مسؤولية البيت على عاتقها لوحدها، وأصبحت الحياة أكثر تعقيدا..

 ألح عليها بعض الأقارب بالزواج، من رجل يعيلها وابنها، لكنها رفضت الفكرة، جملة وتفصيلا، من أجل تربية ابنها، والحفاظ عليه، مخافة التشرد، والضياع..

مضى زمن، ومضت معه الأم تقارع ظروف الحياة، بإرادة قوية، وعزيمة لا تلين..

 كبر نبيل، وحان وقت التحاقه بالمدرسة، ولم يكن مع والدته من المال ما يكفي، لمصاريف الدراسة، مما حدا بها إلى الاشتغال في نسج الأغطية الصوفية لطالبيها، مقابل الحصول على ما تيسر من مال .. وظلت، هكذا، طوال الليالي،  منهمكة تجد، وتكد، وهي تقاوم القلق والنعاس، في آن..

تأخرت في عملها، ذات ليلة ممطرة.. تعب نبيل في انتظارها، فناداها : « أمي ، هيا بنا إلى النوم، فالوقت متأخر، والبرد شديد. يكفي ما بذلته من جهد.  بإمكانك أن تواصلي عملك في الصباح ! »..

فترد، وهي تبتسم :

«لا تقلق يا ولدي، أنا لست مرهقة!»

 أنهى نبيل دراسته بتفوق.. تخرج من الجامعة، وحصل على وظيفة جيدة..

أخيرا، ها قد آن الأوان، لكي تستريح أمه، إذ لم يعد لديها من الصحة ما يمكنها من الاستمرار، في ذلك العمل المضني، والشاق ..سيتكفل نبيل بتحمل مسؤولية الإنفاق على المنزل، وسيخصص، لذلك، جزءا من راتبه..

لكن الأم تأبى ذلك، قانعة، وناصحة ولدها :

احتفظ بما توفر لك من مال، فأنت في حاجة أكيدة إليه يا بني ! لدي ما يكفيني لأواجه نفقات معيشتي اليومية..أعدك أنني لن أتردد في طلب معونتك، إذا اقتضى الأمر ذلك ..

تزوج نبيل، واقترح عليها  الإقامة معه بالمدينة، لكنه لم يحصل على موافقتها، مرة أخرى، فقد أبلغته رأيها بوضوح :

لست معتادة على المعيشة المترفة يا ولدي !  .. أحبذ أن أعيش في بيتي المتواضع، الذي أفنيت العمر فيه، وسط هذا الريف الساكن، الوديع ..

 كبرت الأم راجحة .. داهمتها  الشيخوخة، وأصابها المرض الخبيث، الذي استوجب إجراء عملية جراحية..

وكان على نبيل أن يكون بجانبها،  في محنتها. فما لبث أن ترك كل شيء، ليرافقها إلى حيث تمسكت بالبقاء، حتى آخر نبض في عروقها..

كانت طريحة الفراش، تتبادل معه النظرات، وتحاول، بين الحين والآخر، رسم ابتسامة تفيض حبا، واشتياقا لوحيدها.. بينما ظل نبيل في شرود دائم، وقد اعتصره الألم، واحترق قلبه، وهو يرى ما آل إليه وجه أمه، الذي أنهكه الذبول، واختفت إشراقته بين ثنايا الشحوب والهزال..أين تلك الضحكة البهية التي ألف نبيل إطلالتها كل صباح؟

 لطالما أغدقت عليه من معين لطفها نسائم الغبطة والابتهاج  ..

يحاول نبيل إخفاء حزنه، ويبدو غير قادر على مقاومة سيل دموعه، فتخاطبه أمه بصوت متعب، متقطع :« لا تبك يا ولدي ! فأنا لا أشعر بالألم «..

تنساب الدقائق مثقلة بالكآبة والشجن..يسود الصمت..يغشي الوجوم وجوه الحاضرين..يتلاشى صوت المحتضرة، وتضعف أنفاسها، قبل أن تغلق عينيها إلى الأبد ...