طریق العدالة إلى المجرمین

طریق العدالة إلى المجرمین

جمال فهمى
جمال فهمى

أيام وتبدأ محكمة العدل الدولية أولى جلساتها لنظر المذكرة القضائية التى قدمتها جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيونى تتهمه فيها بارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» بحق الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة.


خالف العدو هذه المرة عادة دأب على ممارستها من قبل، إذ كان يتجاهل هذه المحكمة ويقاطع جلساتها ويزدرى قراراتها، كما حدث عام 2004 عندما أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بعدم شرعية جدار الفصل العنصرى العازل الذى أقامه العدو فى أراضى الضفة الغربية، لكن العدو هذه المرة اضطر لإعلان مثول ممثليه أمام المحكمة، فى إشارة واضحة الى وجود شعور قوى لدى حكومته، أنه فى موقف قانونى خطير قد يفضى فى نهاية المطاف إلى محاكمة وعقاب قادة العصابة المجرمة التى تحكمه، أمام محكمة جنايات دولية.
استندت المذكرة الجنوب أفريقية ضد العدو، الى الاتفاقية الأممية «بشأن منع الإبادة الجماعية للشعوب» التى أقرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1948 ودخلت حيز التنفيذ ابتداءً من عام 1951، واعتبرت هذه الجريمة «تخضع لولاية قضائية عالمية»، وإن كان حكم محكمة العدل فى هذه التهمة الثقيلة تقتصر على إدانة الدولة التى ارتكبتها من دون أن يُطال حكمها عقاب أشخاص بعينهم، غير أن ذلك أصبح متاحًا منذ ظهور «محكمة الجنايات الدولية» التى أنشأتها اتفاقية روما عام 1998.. طبعًا غنى عن البيان أن حكم محكمة العدل الدولية إذا ما صدر وأدان الدولة الصهيونية بارتكاب جريمة إبادة ضد أهلنا فى غزة فسوف يكون هذا الحكم نذيرًا قويًا بإمكانية محاكمة قادة العدو ـ ولو بعد حين ـ وعقابهم من قبل «الجنائية الدولية» بوصفهم مجرمين عُتاة ارتكبوا واحدة من أهم وأخطر الجرائم ضد الإنسانية.. جريمة الإبادة الجماعية حسب نصوص اتفاقية «منع الإبادة» وكذلك اتفاقية روما بشأن نظام محكمة الجنايات الدولية، كلتاهما تنصان على وصف لهذه الجريمة ينطبق بشكل نموذجى على ما ارتكبته قوات العدو بغزة، فالمادة الثانية من الاتفاقية الأولى تُعرف جريمة الإبادة بأنها «تدمير مقصود، كليًا أو جزئيًا، لجماعة قومية أو عرقية أو دينية».. أما المادة رقم 8 من اتفاقية روما فهى تكرر التعريف نفسه للجريمة، إذ تقول إنها «أفعال قتل جماعى ، وإلحاق الضرر الجسدى أو العقلى الجسيم بأفراد جماعة من الناس، أو إخضاعهم عمدًا لأحوال معيشية قاسية يقصد بها إهلاكهم الفعلى كليًا أو جزئيًا».. واضح طبعًا هذه الصور تنطبق تمامًا على ما فعله ويفعله العدو فى قطاع غزة، إذ بلغ عدد الشهداء والجرحى من ضحايا عمليات القتل الشنيعة التى يقترفها حاليًا فى القطاع، إلى نحو 100 ألف من إجمالى عدد السكان الذى لا يزيد على نحو 2 ونصف المليون إنسان، بمعنى أن العدو المجرم أسقط حتى الآن ضحايا لجنونه ووحشيته ما يقارب 5 فى المائة من أهلنا سكان القطاع، إضافة إلى تدمير مُمنهج وواسع النطاق لكل مظاهر وأسباب الحياة، بما فى ذلك قصف وتخريب المشافى والمدارس ومحطات المياه والكهرباء، فضلًا عن منع إمدادات الطعام والوقود وكافة المستلزمات اللازمة للبقاء على قيد الحياة.. ويرتبط بهذه الجريمة الشنيعة جريمة أخرى من الجرائم ضد الإنسانية التى لا تقل فظاعة عن جريمة الإبادة، أى جريمة «التهجير القسري»، إذ يسعى العدو الى وضع مئات الآلاف من البشر فى غزة أمام ثلاثة خيارات مروعة، فإما الموت الفورى الناجز أو الموت ببطء جوعًا، أوالهجرة والهروب من هذه المحرقة المروعة ويتركون وطنهم يسرقه عدو مسلح حتى الأسنان بالعنصرية وأحدث وأقوى أسلحة القتل الأمريكية.


والحقيقة لست أعرف بماذا سيترافع ممثلو العدو أمام قضاة محكمة العدل الدولية، ومن أين لهم بالحجج القانونية التى يدفعون بها تهمة ارتكابه جريمة القرن ضد البشرية، ربما سيكررون سرديتهم الخائبة وأكاذيبهم التى لا يفوق فحشها إلا رداءتها.. لعل أول هذه الاكاذيب استنادهم إلى ما يسمونه «حقهم فى الرد» على خيبتهم القوية يوم 7 أكتوبر، متناسين بوقاحة لا نظير لها، أنه طبقًا للقانون الدولي، فإنه ليس لهم أية حقوق شرعية فى الرد على مقاومين يسعون إلى تحرير وطنهم المسروق.


لكنهم قد يتمادون فى الوقاحة ويرجعون التضخم الهائل وغير المسبوق فى أعداد الشهداء والمصابين من المدنيين الذين جلهم أطفال ونساء وشيوخ، الى ما يدعونه بأن المقاومة تحتمى بالسكان المدنيين، وهى حجة على ما فيها من كذب، مجرد هراء لا قيمة قانونية له، إذ حتى لو كانت صحيحة لا تدفع عن العدو تهمة تعمد ارتكاب الإبادة، لأن رجال المقاومة هم بالمعنى القانونى مجرد «مدنيين» اضطروا لحمل السلاح.