«لصوص الدهر» قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم أحمد

الكاتبة آيار عبد الكريم أحمد
الكاتبة آيار عبد الكريم أحمد

بدا البيت وكأنه قزم هزيل بين عمالقة؛ فقد رونقه وهيأته المعتادة ووجوده الطاغي، تقلصت المساحة الواسعة التي كانت ماثلة أمامه.

لم يظلّ من تلك البيوت العتيقة إلا بيتاً واحداً لسيدة عجوز، تشبثت به دوماً ومازالت، فجميع من حولها من الجيران والأصدقاء قد هدموا بيوتهم القديمة بذكرياتها الحلوة والمُرّة، واستبدلوها بتلك الأبراج الشاهقة الماسخة التي تحجب ضوء الشمس وبريق القمر في آنٍ واحدٍ؛ تحجب النور الذي يبث الطمأنينة والأمل في قلب الإنسان، ذلك النور الذي يمده بطاقة إيجابية تعينه على بدء يومه بهمة ونهم وعزيمة .

أما هذه السيدة العجوز فلم تستطعْ أن تفعل مثلهم؛ ورغم إلحاح الأهل والأولاد لمسايرة تلك الموضة الكالحة الجديدة، البنايات التي ألفها الجميع.

إلا أنها لم تستسلم قط لحديثهم المتواصل؛ الذي يرّن في أذنيها دوما كطنين نحل دؤوب لا يكف عن الحراك و العمل .

فالبيت بالنسبة لها ليس مجرد جدرانٍ ودهاناتٍ جديدة بألوان زاهية؛ البيت ينمّ عن أربابه، محصلة ذكريات الماضي بعبقها وروائحها العطرة التي تستمد منه وجودها في تلك الحياة، اوكسجين الحياة؛ البيت هو أيضاً حاضرها اليوم ومستقبلها المنتظر المجهول.

اغرورقت الدموع بعينيها عندما جاء إليها أحد أبنائها بصحبة سمسار؛ ظل يقنعها بالأموال الطائلة التي سيُدرّها هذا البيت إن هُدِم. شعرت مع هذه المحاولات المستميتة بجفاء الحياة؛ فهو غريب الأطوار يتحدث عن الأموال بحميمية وألفة لم تستشعرها من قبل.

حسناً؛ إنه المال الذي يجعلنا نلهث وراءه ونحاول الحصول عليه بشتى الطرق من أجل اكتنازه وجعله نفوذا وسطوة لنا.

أما هي فشعرت في تلك اللحظة برأسها تدور بين أرجاء المنزل؛ كأنها في دوامة ولا تجد في هذه الدوامة سوى صورتها وهي واقفة بشموخ بصالة البيت؛ تنظر إليه وتحتضنه مثلما تفعل دوماً.

شعرت بغُصة في حلقها وهم يجثم على صدرها؛ هي تعلم جيداً أن الهدم أسهل مايقوم به الإنسان؛ مجرد ضرباتٍ متتالية بآلة لعينة تحوله في التو واللحظة إلى رمادٍ؛ ذرات تراب بسيطة سيطيرها الهواء دون أدنى مقاومة منها.

أما البناء فهو شاق للغاية؛ شاق بقدر قطرات عرقها التي سالت من جبينها؛ وبقدر الجهد المبذول الذي تكبدته من أجل صنع ذكرياتها؛ محصلة حياتها ولطالما بذلت الكثير والكثير من أجل الاحتفاظ بها أيضاً .

لماذا يحاولون فرض صنع ذكريات جديدة عليها عُنوةً دون إرادتها ؟

هي لن تستطيع أن تتكبد صنع ذكريات جديدة إذا تركت المنزل وتخلت عنه.

نظرت إليهما بحنق واشمئزاز. كشرت عن أنيابها كأسد جسور؛ يحاول الدفاع عن أشبال ذكرياته بكل ما أوتي من قوة.

دلفت إلى البالكون، نظرت إلى الحائط؛ ذلك الجدار الذي يجعل البيت منُتصباً شامخاً لا يزحزحه شيئاً. تشبثت به بقوة؛ غرست أصابعها به وكأنها تحفر يديها بقوة، أرادت أن تقول: " إذا أردتم هدم هذا البيت، فادفنوني به أولا ولو في حفرة صغيرة حتى لا أبتعد عن ذكرياتي.