بيرم التونسي.. شاعر الشعب الذي خاف الكتاب على اللغة العربية من فصاحة عاميته

بيرم التونسي
بيرم التونسي

"الأولى آه.. والثانية آه.. والثالثة آه.. الأولى: "مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني"، والثانية: "تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صفاني"، والثالثة: "فرنسا وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني".. بهذه المقولات وصف الشاعر بيرم التونسي رحلته في المنفى حيث عانى كثيرا في منفاه، بيرم التونسي شاعر مميز جدا ترك تراثا فنيا وأدبيا متنوعا من شعر وقصة ومقامات ومقالات ونصوص مسرحية ومسلسلات إذاعية وسيناريوهات أفلام، بالإضافة إلى رصيد الأغاني التي عاشت وستعيش لسنوات وسنوات مواكبة لكل الأزمان.

محمود بيرم التونسي من أهم شعراء الوطن العربي، ورائد شعر العامية لدرجة قيل عن لغته في الشعر "إن اللغة العربية تخشى على سحر بيانها من فصاحة عاميته، لقب بـ"أمير شعراء العامية" و"هرم الزجل"، ولم يكن بيرم التونسي شاعرا وكاتبا فقط، بل كان مناضلا قوميا يقف في مع الشعب حتى لقب بــ"شاعر الشعب".


تمر اليوم ذكرى رحيل "شاعر الشعب"، حيث رحل في 5 يناير 1961، وولد بيرم التونسي، عام 1893 في حي السيالة بالإسكندرية لأسرة ذات أصول تونسية وتلقى تعليمه الأول بالكتاب، بعدها التحق بالمدرسة الإبتدائية ولكنه لم يكمل تعليمه، واضطر إلى العمل بعد وفاة والده في سن مبكرة، اشترى محل بقالة صغير وعمل به وظل يعاني من كثرة الضرائب التي كان يفرضها الإنجليز، فقرر أن يترك البقالة واتجه لـ"الزجل" حيث كان لديه اهتمام كبير بالشعر والأدب، انطلقت موهبة بيرم التونسي في كتابة الزجل والشعر العامي"، بعد أن كتبت زجلاً مطلعه: "يا بائع الفجل بالمليم واحدةً، كم للعيال وكم للمجلس البلدي"، هذه القصيدة أثارت ضجة واسعة في مدينة الإسكندرية بعد أن نشرتها صحيفة "الأهالي"، ما دفعه إلى إعادة طباعتها وتوزيعها منفصلة، ووزع منها 100 ألف نسخة.


أصدر بيرم التونسي "مجلة المسلة" عام 1919، وكتب على صفحتها الأولى "المسلة لا هي جريدة ولا مجلة"، كما كتب عددها الأول من الغلاف إلى الغلاف، وليهرب من الرقابة على المطبوعات كتب عليها "الجزء الأول" بدلاً من العدد الأول، وطبع منها آلاف النسخ، صدرت في 4 مايو عام 1919 وعلى غلافها صورة لبيرم التونسي، ونزل بنفسه ليوزعها على المقاهي وفي محطات القطار والترام وعلى أصحاب الدكاكين وفي دواوين الحكومة، وفي بضعة أيام تحمس أهل الإسكندرية لهذه الجريدة التي تهتم بمشاكلهم الخاصة وتدافع عن حقوقهم العامة ضد المحتل الإنجليزي وعملائه من بعض الوزراء، استمرت المجلة حتى العدد 13 الذي شن فيه التونسي هجوماً زجلياً رهيباً على السلطان فؤاد وابنه فاروق، فأصدر السلطان أمراً بالإغلاق إلى الأبد، ثم أصدر صحيفة أخرى باسم "الخازوق" وبمجرد صدور عددها الأول صودرت أيضاً. 


كان انتقاد بيرم التونسي، للملك فؤاد وأسرته، ونشره قصيدة "البامية الملوكي والقرع السلطاني"، التي عرض فيها فضائح الأسرة الملكية، ومقاله "لعنة الله على المحافظ" الذي هاجم فيه زوج الأميرة فوقية بنت الملك فؤاد الذي كان محافظ القاهرة وقتها، السبب وراء صدور قرار بنفيه إلى تونس.


أراد بيرم التونسي، أن يواصل مسيرته الصحفية في تونس، لكنه وضع تحت المراقبة الشديدة، بعد أن سبقه صيته في مصر، باعتباره محرضاً على الثورة، فغادر تونس إلى باريس، التي أعجبه نشاط أهلها، لكنه فشل هناك في الحصول على عمل، فانتقل إلى مدينة ليون لتتفاقم معاناته إلى حد الجوع.


عاد "شاعر الشعب"، إلى مصر بجواز سفر مزور في مارس عام 1922، وكتب قصيدة هاجم السلطة والملك "فؤاد"، فقال: "جابوك الإنجليز وقعدوك على العرش تمثل دور الملوك"، وبسبب هذه الأبيات تم ترحيله من مصر مرة أخرى ونفيه في فرنسا لمدة 9 سنوات، ومنها إلى تونس ثم سوريا ووضع على ظهر سفينة لنفيه إلى أي دولة في شمال أفريقيا، لكنه أثناء ترحيله تمكن من الهرب عن طريق أحد البحارة المصريين ونزل في بورسعيد هارباً، وقد دام النفي الثاني لبيرم 15 عاماً (1923 - 1938)، وخلالها لم يتوقف عن الكتابة حتى في أصعب الظروف وألف مجموعة من أروع أعماله في المنفى، فقال في منفاه: "نفاني الإنجليز! لولاك يا لساني ما اتسكيت يا أفايا قفايا"، وتم حل أزمته في مصر بعدما توسط له رئيس الوزراء آنذاك محمد محمود باشا عند الملك فاروق الذي كان تولى العرش بعد رحيل والده الملك فؤاد الذي حدثت في عهده الأزمة، لتتم تسوية الأمر ويبقى بيرم في مصر.


كانت تجربة بيرم التونسي مع سيد درويش، شديدة التأثير عليه، وبدأ اللقاء حينما طلب "درويش" من بيرم أن يؤلف له أوبريت يلهب الحماسة في نفوس المصريين، ويدفعهم لمناهضة الاحتلال، فقام بتأليف أوبريت "شهرزاد"، وأحداث هذا الأوبريت مقتبسة عن أوبريت «دوقة جيرولستين الكبيرة» للكاتبين الفرنسيين: ميلهاك وهاليفي، وكان في هذا الأوبريت أغنية "أنا المصري كريم العنصرين.."، ثم تعاونه معه في أعمالا عديدة.


وبدأ تعاونه مع أم كلثوم عام 1940، وأثمر عن 33 أغنية، منها "أنا في انتظارك" و"حبيبي يسعد أوقاته" و"هو صحيح الهوى غلاب" و"أهل الهوى" و"كل الأحبة" و"شمس الأصيل" و"الحب كده"، كما غنت آخر أغنية له بعد وفاته بـ10 سنين وهي "القلب يعشق كل جميل" في 1971، وتعاون أيضا مع محمد عبد الوهاب في فيلم "يحيا الحب" بأغنية "محلاها عيشة الفلاح"، وتعاون كذلك مع عدد كبير من المطربين منهم: فريد الأطرش في عشرات الأغنيات، ومع نور الهدى، والشيخ إمام، ورياض السنباطي في "ليه يا بنفسج" التي انتشرت في العالم العربي.

كتب بيرم التونسي، المسلسل الإذاعي «عزيزة ويونس» التي أخذها عن الملحمة الشعبية المصرية «السيرة الهلالية» وقدمها بطريقة الأوبريت، وهو أول من كتب فوازير رمضان في العالم العربي وقدمتها آمال فهمي في الإذاعة المصرية، وأول من كتب "المسحراتي" لمحمد فوزي.