خواطر الإمام الشعراوي .. مواجهة هموم الدنيا

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يبدأ الشيخ الشعراوى فى تفسير الآية 219 من سورة البقرة حول قوله تعالى:» يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» بقوله:  الخمر كما نعرف مأخوذة من الستر، ويقال: (دخل فلان خمرة) أى فى أيكة من الأشجار ملتفة فاختبأ فيها. و(الخِمار) هو القناع الذى ترتديه المسلمة لستر رأسها، وهو مأخوذ أيضا من نفس المادة. و(خامره الأمر) أى خالطه.

كل هذه المعانى مأخوذة من عملية الستر. و(الميسر) مأخوذ من اليسر؛ لأنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بلا تعب. والخمر والميسر من الأمور التى كانت معروفة فى الجاهلية. والإسلام حين جاء ليواجه نُظُما جاهلية واجه العقيدة بلا هوادة، ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول الأمر، ورفع راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ثم جاء الإسلام فى الأمور التى تُعتبر من العادات فبدأ يهونها؛ لأن الناس كانت تألفها، لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة. وكان هذا من حكمة الشرع، فلم يجعل الأحكام فى أول الأمر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل فى المجتمع وفى الوجود كله، وإنما أخذ الأمور بالهوادة. وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر، فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب عن وعيه.

ولا يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان الذى كرمه الله بالعقل أن يأتى للشيء الذى كرمه به ويُسَيِّر به أمور الخلافة فى الأرض ويستره ويغيِّبه، لأن من يفعل ذلك فكأنه رد على الله النعمة التى أكرمه بها، وهذا هو الحمق.

ثم إن كل الذى يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا، ونسأل هؤلاء: وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ لا، ولذلك فالإسلام يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها بجماع عقلك، فإذا كانت هناك هموم ومشكلات فالإسلام لا يريد منك أن تنساها، لا، بل لابد أن توظف عقلك فى مواجهتها، وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلات بعقلك فلا تأتى لمركز إدارة الأمور الحياتية وهو العقل، والذى يعينك على مواجهة المشكلات وتقهره بتغييبه عن العمل.

وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذى يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل للخروج منها، فإذا كان الأمر ليس فى استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لأن الله يريد منك أن تريح عقلك فى مثل هذه الأمور، وإن كان الأمر له حل وفى استطاعتك حله، فأنت تحتاج للعقل بكامل قوته. والحق سبحانه وتعالى يرشدنا فى هذه القضية بحكمة الحكيم، ويعطينا عطاء لنحكم نحن فى الأمر قبل أن يطلب منا. إنه سبحانه يمتن علينا ويقول: «وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» «النحل: 67».

فعندما ذكر الله «سَكَراً» مر عليها بلا تعليق. وعندما قال: «رِزْقاً» وصفه بأنه «حَسَناً» فكان يجب أن نتنبه إلى أن الله يمهد لموقف الإسلام من الخمر؛ فهو لم يصف (السكر) بأى وصف، وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما يستخرجون من هذه الثمرات سكراً، فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن، لأن هناك فرقا بين أن تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساتراً للعقل. وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح. فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له: سأدلك على طريق الخير وأنت حر فى أن تسير فيه أو لا تسير. وعندما تشرع وتضع الحكم، فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك بأن يفعل الأمر ولا شيء سواه.

والحق سبحانه وتعالى عندما قال: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر»، ذكر لنا المفاسد وترك لنا الحكم عليها، قال سبحانه مُبَلغّاً رسوله: «قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» ولو لم يقل «وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» لاستغرب الناس وقالوا: نحن نأخذ من الخمر منافع، ونكتسب منها، وننسى بها همومنا، كانت هذه هى المنافع بالنسبة لهم، لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما، أى أن العائد من وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما، وهذا تقييم عادل، فلم تكن المسألة قد دخلت فى نطاق التحريم، لأنها مازالت فى منطقة النصح والإرشاد.

وقوله تعالى: «وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا» يجعل فيهما نوعا من الذنب، لقد كان التدرج فى الحكم أمراً مطلوباً لأنه سبحانه يعالج أمراً بإلف العادة، فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة.

والعادة شيء يقود إلى الاعتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّدَتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك اضطراب. وما دامت المسألة تقود إلى الاعتياد، فالأفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع الاعتياد.