خارج النص

المعرفة مقاومة.. والوعى سلاحنا

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

يتصور البعض خطأ - أن الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلى يقتصر فقط على المواجهة العسكرية أو السياسية والدبلوماسية، فى حين أن الصراع فى جوهره شامل لكل أوجه الحياة، من الإعلام إلى الثقافة، ومن الاقتصاد إلى الفن.


هذه الحقائق تدركها بعمق عندما تطالع عملين مهمين لكاتبين كبيرين هما الأعزاء: إيهاب الحضرى مدير تحرير جريدة الأخبار، وطارق الطاهر رئيس تحرير أخبار الأدب السابق ومجلة الثقافة الجديدة حاليا، وللكاتبين رصيد وافر من الاحترافية والتألق فى ميدان الصحافة الثقافية، ورصيد أوفر من المحبة والتقدير لدى كل من يعرفهما، وأنا منهم.


وكان من حسن الطالع أن أقرأ الاسبوع الماضي، بينما القلب يمزقه الألم على ما يجرى فى غزة، كتاب «اغتصاب الذاكرة: الاستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ» لإيهاب الحضري، والذى احتفلنا مطلع الأسبوع بإطلاق طبعته الثالثة، وبينما أنا غارق فى تفاصيل كشفه لوقائع تاريخية متجددة للمخطط الصهيونى الإجرامى لاغتيال الحجر فى أرض فلسطين التاريخية، والذى لا يقل دموية عن مخططهم لاغتيال وتهجير البشر، إذا بكتاب طارق الطاهر «الثأر من النكسة: سيرة ثقافية من 1967 إلى 1973»، يأتينى وكأنه رسالة قدرية تؤكد أن المقاومة تستطيع تغيير الواقع الصعب، وأن الانتصار سيأتى فى نهاية النفق المظلم.
الكتابان يضعاننا أمام حقيقة مهمة ربما توارت تحت ركام الأخبار المؤلمة والصور الدامية والجرائم الوحشية التى ترتكبها إسرائيل بحق سكان غزة الأبرياء، فعندما يُقصف الاطفال بطائرات الـ 16، وتنهال على رءوس العزل آلاف الأطنان من المتفجرات، فلا مجال للحديث عن الثقافة أو التاريخ أو المبانى الأثرية التى تسرقها وتغتالها إسرائيل، لكن الحقيقة أن المخطط واحد، وما يرتكبونه منذ وجودهم المصطنع فى منطقتنا ليس سوى محاولة لزرع ذلك الورم السرطانى فى جسدنا العربي، بل واختلاق أدلة على وجوده منذ القدم، أو تزييف الواقع كى يبدو أن لهم حقا تاريخيا فى أرضنا العربية.


كتاب «اغتصاب الذاكرة» يصدمنا بحقائق مؤلمة عن كيف تدار الآلة العسكرية الهمجية الإسرائيلية بعقل استخباراتى يدمر أدلة وجود الإنسان الفلسطينى على أرضه، ويستولى على تاريخ المنطقة لينسبه إلى ذلك المستعمر الذى جاء من الشتات ملفوظا من كل دول العالم، بحثا عن جذور فى أرض لا أصل له فيها... ولا مستقبل إن شاء الله.
بينما يفاجئنا كتاب «الثأر من النكسة» بفعل المقاومة الذى تمارسه الثقافة، فيكون للكلمة أثر البارود، ويكون للصورة والأغنية والفيلم قوة البندقية والطائرة والمدفع.


نعم .. لا تستهينوا بتأثير المعرفة وبناء الوعى فى قضية أفنت أجيالا، وربما ستفنى المزيد، لكن قضايا الشعوب وحقوقهم لا تسقط بالتقادم، ولا تفنى طالما بقيت حية فى الذاكرة، تحميها عقول تفهم طبيعة الصراع، ولا تشتتها محاولات التغييب والتسطيح والتزييف.


يدهشنى كتاب «الثأر من النكسة» وهو يسجل أنه بعد 19 يوما فقط من نكسة 1967أعدت وزارة الثقافة خطة لإصدار مجموعة متنوعة من الكتب لـ»بناء ثقافة علمية معاصرة»، منها مكتبة كاملة عن فلسطين تاريخها وواقعها، ومكتبة أخرى تحت عنوان «إعرف عدوك»، شملت فى إصدارها الأول 15 كتابا «تكشف أعداءنا فكريا واقتصاديا وتاريخيا وعسكريا»، وفق الإعلان عن تلك السلسلة قبل 56 عاما.
بعد 19 يوما فقط أدرك القائمون على الثقافة، رغم قسوة الهزيمة ووطأة الألم، أن المعرفة والعلم هما سبيل المقاومة الصحيح، وأن معرفة العدو أفضل وسيلة لهزيمته.
ما أحوجنا اليوم إلى إعادة الاعتبار للمقاومة الثقافية، وما أشد احتياجنا لسلسلة جديدة من «إعرف عدوك» بأسلوب يناسب العصر ويملأ فراغ الوعى فى عقول من سيحملون مستقبل القضية.
المعرفة مقاومة... والثقافة سلاح.. والوعى حصن فى مواجهة عدو خبيث يجيد التزييف والتلاعب بالعقول ويجد من يسانده ويدعمه من ترسانة هائلة إعلامية وفنية عالميا.