من دفتر الأحوال

رائحة «ديستوبيا» إسرائيلية

جمال فهمى
جمال فهمى

كتبت هنا ذات مرة عن ظاهرة -فساد الجمهور- وفساد بعض المجتمعات وقلت وقتها انه من المشهور والمعروف فى الإبداع عموما وفى الأدب والرواية خصوصا (فضلا طبعا عن الفلسفة) تناول ورسم معالم «المدينة الفاضلة» أو تلك الـ»يوتوبيا» utopia التى تنعم فيها الجماعة البشرية بحياة مثالية تظللها قيم الحق والخير والجمال والحرية.. إلخ.


لكننى أظن أن كثيرين ربما لا يعرفون أن فى الأدب الحديث والمعاصر هناك أعمال روائية كثيرة تستند الى بحوث علمية حديثة لعلماء الاجتماع عن ظاهرة مرضية قد تصيب بعض المجتمعات البشرية، هى عكس اليوتوبيا تماما، أى ما يسميه باحثو علم الاجتماع ونقاد الأدب «الديستوبيا» dystopia أو «المدينة الفاسدة» حيث الجمهور نفسه العائش أنحط وفسد وهبط إلى قاع مستنقع بؤس شامل اجتماعى وأخلاقى وعقلي.


واستطردت قائلا فى السطور القديمة، انه لا حاجة لشرح الفروق الجوهرية بين «الشعب» كمفهوم سياسى ينطبق على سكان مجتمع يتمتع بمؤسسات سياسية واجتماعية تسمح بأن يقاوم مشاكله وعثراته بدراجات معقولة من الفاعلية، وبين جمهور خام يكابد معاناة الخراب الطويل ويتخبط فى ظلمات اليأس والبؤس والعشوائية.
هذه الحالة الأخيرة، هى التى تقول دروس التاريخ إنها شكلت البيئة الحاضنة والمناسبة لصعود أسوأ الحكام وأبشع الجماعات والتيارات والأحزاب الفاشية والعنصرية.


علينا أن نتذكر دائما أن هتلر وموسولينى ودونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو  فى الكيان الصهيونى وحكومته المكونة من حفنة من عتاة المجرمين العنصريين، كل هؤلاء صعدوا إلى سدة الحكم فى مجتمعاتهم، ليس عبر انقلابات عسكرية، وإنما بأصوات جمهور ناخبين بائس ومحبط بل وفاسد جدا، ومصاب بأسوأ امراض البشر واشدها ضررا وخطورة، الا وهو مرض -العنصرية- وكراهية الاخرين والاستعداد الدائم لسرقتهم (سرقة وطنهم وبيوتهم) وتسويغ الكذب والتلفيق والاستعداد دائما لاستعمال القوة الهمجية والأساليب الوحشية لقتل هذا الآخر ومحاولة اجتثاثه.. طبعا هذا جنون وتشوه عقلى وانفلات تام من قيود الحضارة الإنسانية وشروط الانتماء لها.


الجماعات البشرية المصابة بهذا المرض الفتاك الناجم عن السير الاعمى خلف حفنة من القادة المخبولين الذين يؤمنون بنظريات منحطة ومجنونة من نوع النازية والفاشية والصهيونية، هؤلاء بالزمن يفقدون كل علاقة لهم بالقيم الإنسانية النبيلة بل وتتحلل روابطهم بالبشر والإنسانية نفسها، ومن ثم يغوصون رويدا رويدا فى مستنقع من الأوهام والاكاذيب حتى يغرقوا وينفصلوا تماما عن الواقع القائم حولهم.
عزيزى القارئ انظر حولك وتأمل قليلا فى المشهد المروع وشلال الدم الرهيب الذى يتدفق هذه الأيام فى غزة نتيجة هذا العدوان والقتل الوحشى وحرب الإبادة التى يرتكبها جيش العدو الاسرائيلى، وتأمل خصوصا فى قلب هذه الصورة الوحشية حيث سترى بوضوح حقيقة ساطعة تقول: انه فيما شعوب العالم كله (بمن فيهم اغلبية شعب أمريكا الداعمة بالسلاح والمال والسياسة، لأبشع حروب الجنون الاسرائيلي) تعبر بشكل يومى عن تضامنها مع الشعب الفلسطينى، وفزعها وادانتها الشديدة لما ترتكبه آلة الحرب الإسرائيلية فى غزة، فيما يحدث هذا فإن الأغلبية الساحقة من شعب المجتمع الصهيونى تبدو وكأنها تسعد وتستمتع بمشاهد هذا الجنون الدموى المشين.. اذ بدا لهم ان قتل الأطفال الصغار بهذه الكثافة المريعة شىء يمنح النشوة ويثير الغرائز!!
انه جمهور فَسد حتى تعفَّن واصبح نموذجا يدرس لكيف تكون الديستوبيا dystopia وكيف يضرب العفن أطنابه فى بدن جماعة بشرية.