«زهران وقاعدة رسم التاء» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

في مقهى الاستراحة الواقعة، عند أطراف القرية، نلتقي، بداية كل يوم كعادتنا، ونتواصل لساعات، حتى ينتهي بنا الحديث، مع آخر رشفة لقهوة، نود لو لم يحن موعدها، وتأخر لفترة أطول..

ذات لقاء، لم يأت صديقنا فهمي بمفرده، بل كان مصحوبا بصهره زهران، الذي أقبل علينا بسيارته الفاخرة، رباعية الدفع، وقد بدت عليه مظاهر التنعّم، والثراء..

لم يطل بالضيف المقام بيننا، وإذا به يشاركنا استعادة ذكريات الطفولة والصبي، وينطلق في سرد حكايته على مسامعنا:

«كنت تلميذا بالسنة الرابعة، ما أزال في بداية مشواري الدراسي.. ليس من السهل أن أنسى ملامح معلمي للغة العربية، الذي كان يحتكم على وجه حاد القسمات، شحيح البسمات، معقود الحاجبين..  ينتصب فوق المصطبة، في جو يسوده الصمت والسكون، ويشرع في إملاء النص، وصوته الجهوري يعلو، تارة، وينخفض طورا. ثم يتقدم بتؤدة، بين الصفوف، ممسكا بعصاه، فترتجف قلوبنا الصغيرة خوفا، لرؤيتها، قبل أن تأتي مرحلة الإصلاح، التي ينصرف فيها التلاميذ إلى إحصاء أخطائهم وتصويبها، لينال كل مخطئ، ما يناله من ضربات تلك العصا الغليظة القاسية، وقد تركت لسعاتها الموجعة، دموعا متناثرة، وأياد غضّة متألمة، بأصابعها المحمرة المنتفخة..

كنت منكبّا على تعقب أخطائي، حين وقف "سيدي" حذو طاولتي، في منتصف الصف الأوسط، وما لبث أن أطلق صوته غاضبا:

" انظروا ما كتبه زهران ، لقد فتح التاء المربوطة وأغلق التاء المفتوحة! إنه لم يفهم شيئا من درس الرسم، في الحصة الفارطة! "..

اشتد حنقه، فجرّني من أذني، وأوقفني في آخر القاعة، آمرًا إياي برفع يدي وقدمي اليمنى..

مازلت لم أنس، ما ألمّ بي من تعب، جرّاء الوقوف الاضطراري. ومع الأيام، صرت لا أخطئ في رسم التاء..

دارت عجلة الزمن بسرعة عجيبة، وانتهى بي المسار الدراسي إلى الحصول على شهادة جامعية في الاقتصاد والتصرف..

وما لبث أبي أن دعاني للعمل إلى جانبه، في شركته الخاصة، التي أضحت تنافس أكبر الشركات، في المقاولات، وبيع العقارات السكنية، وكرائها..  ولأنني كنت وحيد أبويّ، فقد صرت، بعد وفاتهما، مالكا لأشهر الشركات في البلاد.. لقد كنت محظوظا جدا، وأدركت، بمرور الزمن، أن الحظ وحسن الطالع، يمكن أن يوفّرا لبعض الناس فرصة ثمينة، لم يكونوا ليحلموا بها أبدا، وإذا ما أحسنوا استغلالها، فإنها تكون لهم منطلقا للنجاح، والشهرة، وكسب الثروة.. لقد سعدت جدا بما صرت إليه من سعة رزق، وترف، ورغد عيش. وظللت، في كل مرة، أصادف فيها أحدا، لا يجيد الرسم، والكتابة بشكل سليم، لا أتوانى عن مساعدته على إصلاح عثراته، مستعينا بتلك القواعد، التي حفظتها، في الصغر، وباتت محفورة في ذاكرتي، كالنقش على الحجر..

 كنت جالسا بمفردي، ذات صباح، حين دخل إلى مكتبي، رجل متقدم في السن، مرفوقا بفتاة في مقتبل العمر، فتسمرتُ لحظةَ وقوع عينيّ، على قسماته..  كيف لي أن أنسى ملامح معلمي بالسنة الرابعة بالمدرسة الابتدائية؟ إنه هو بالفعل! ما زال يحافظ على هيبته، ووقاره، ورزانته..  لم أنس العصا، ولا الصوت الجهوري، ولا الخوف.. كل ذلك مر، في لمح البصر، على ذاكرتي، بينما كان معلمي مركزا بصره على باب مكتبي، واللافتة التي حملت اسمي، واسم الشركة التي أديرها..

تقدمت لأسلم عليه، فافترّت شفتاه عن ابتسامة خفيفة، في إشارة إلى أنه تذكرني.. وما لبث أن عانقني بحرارة، وانتهى لقاؤنا بإمضاء عقد الكراء، الذي أتى من أجله، رفقة ابنته، أستاذة التعليم الثانوي، التي عينت بأحد معاهد المدينة، وكان عليها العثور على سكن لها، في ظل الأزمة السكنية الخانقة.. غادرني شاكرا لي تقديري، واعترافي له بجميل ما بذله من جهد في تعليمنا، ومن حرص شديد على نجاحنا..

ومن المحتمل أنه تساءل في نفسه: "هل كان ما حققه هذا الشاب، الذي ابتسم له الحظ، يحتاج إلى كل ذلك الكم من الحدة، والعبوس، والعقاب القهري، مخافة أن يخطئ في رسم التاء المفتوحة والمربوطة، في آخر الكلمة؟ “»