أتوموبيل الفن

مدحت عبدالدايم يكتب: ذكرى في تراب بور سعيد

مدحت عبدالدايم
مدحت عبدالدايم

حشود من المواطنين على أرصفة المحطات تنتظر عودة أبطال الجيش والمقاومة من بور سعيد بالقطارات والسيارات وعربات الجنود، وحشود من العمال يتأهبون للسفر إلى مدن القناة لإزالة آثار العدوان، بعد هزيمة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى الثالث والعشرين من ديسمبر 1956 ورحيل آخر جندي من فلول العدوان الثلاثي الغاشم، تلك الهزيمة التى لم تكن مجرد هزيمة سياسية فحسب، بعدم اقتصارها على دحر القوات المعتدية، بل تجاوزت ذلك إلى تصفيتها للآثار المتبقية للاستعمار، وكتابة نهاية قاعدة السويس، وإنهاء عصر الاحتكارات الأجنبية، وتحرير الاقتصاد القومى من النفوذ الأجنبي، وتحرير سياسة مصر الخارجية، وعودة قناة السويس إلى أصحابها، وكان تأميمها فى 26 يوليو من نفس العام السبب الأول للعدوان، وذلك بعد سحب أمريكا وبريطانيا والبنك الدولى العروض المقدمة لتمويل مشروع السد العالي، فى البداية أرسلت الحكومة البريطانية احتجاجًا على قرار تأميم شركة قناة السويس فى اليوم التالى للتأميم، ورفضت مصر تسلم الاحتجاج، فهددت بريطانيا وفرنسا باحتلال مصر بعد الإعلان عن تجميد الأرصدة والأموال المصرية وممتلكات شركة القناة فى الدولتين، فى الوقت ذاته أيد الاتحاد السوفيتى حق مصر فى التأميم وكرر عرضه تمويل مشروع السد، وصدرت الأوامر البريطانية الفرنسية لرعاياهما بمغادرة مصر، وحرضتا المرشدين الأجانب العاملين بالقناة على الإضراب فى الثامن من أغسطس، وفى 28 أكتوبر أعلنت إسرائيل تعبئة قواتها العسكرية، وهاجمت منطقة "الكونتيلا" بسيناء فى 29 أكتوبر.

في اليوم التالي وجهت بريطانيا إنذارًا تطلب فيه انسحاب القوات المصرية عشرة أميال عن قناة السويس وأن تقبل بالاحتلال، ولما لم تستجب مصر للإنذار أغارت الدولتان على المطارات المصرية، فتصدت القوات المسلحة لهما ببسالة نادرة، وكبدت العدوان خسائر فادحة، يضيق المقام عن حصرها، وفى بور سعيد والسويس كتبت العسكرية المصرية والمقاومة الشعبية أروع ملاحم البطولة والفداء، وهددت روسيا بضرب بريطانيا وفرنسا بالصواريخ، ووجهت إنذارًا لهما بالمبادرة بالانسحاب، وهو ما تم فى 23 ديسمبر بعد فشل مساعى الدول الثلاث فى إعادة احتلال القناة أو القضاء على الفدائيين فى سيناء وغزة، وجراء ذلك الفشل ونتيجة للخسائر العسكرية والاقتصادية استقال رئيس الوزراء البريطانى "أنطونى إيدن" ونجحت مصر فى فتح آفاق جديدة للتنمية والاستعداد لتنفيذ مشروع السد وتوسيع الرقعة الزراعية وتوليد الكهرباء ودخول عصر صناعى غير مسبوق.

عكست التظاهرات العالمية المنددة بوحشية العدوان وبقصف المدنيين بالأسلحة المجرمة، التعاطف الدولى مع عدالة قضية مصر، وساندت الأمة العربية القاهرة فى تلك الحرب الغاشمة، ووقفت الدول الإسلامية وشعوب العالم الحر فى ربوع العالم إلى جانب مصر، وعبر الفن المصرى عن قوة وصلابة الجبهة الداخلية والتفافها حول الجيش والقيادة السياسية، ومنذ اللحظة الأولى للعدوان شكل الفن جبهة صمود محفزة على الانتصار، وكاشفة عن تكاتف المصريين وعزمهم المؤكد على دحر العدوان، وتبارى الفنانون فى تقديم الأعمال الفنية التى تربو على السبعين، وتعد فى ذاتها ملاحم لا تقل أهمية عن ملاحم القتال، انطلقت مع اندلاع المعارك، واستمرت فيما بعدها ترصد أفراح الشعب بالانتصار، وأنتج الكثير منها لاحقًا مستلهمًا ملاحم البطولة والنصر الكبير.

لا ينسى المصريون النشيد الجماعى المزلزل المدوى "الله أكبر" من كلمات عبد الله شمس الدين وتلحين محمود الشريف، الذى سكب خلاله خلاصة رحيق الوطنية، فصار شعارًا للمعركة بكلماته الهادرة إلى اليوم: "الله أكبر فوق كيد المعتدى .. والله للمظلوم خير مؤيدى .. أنا باليقين وبالسلاح سأفتدى .. بلدى ونور الحق يسطع فى يدى .. قولوا معي الله اكبر"، وتلتقط أم كلثوم حماسة صلاح جاهين على هدير موسيقى كمال الطويل، ليهتف صوتها: "والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى .. انطق وقول أنا صاحى .. يا حرب والله زمان" ولتصبح تلك الصرخة النشيد الوطنى لمصر منذ عام 1961 إلى 1979، ويهز صوت فايدة كامل أوتار القلوب هادرًا فى كرامة وشموخ وإباء بكلمات كمال عبد الحليم وألحان على إسماعيل "دع سمائى فسمائى محرقة .. دع قنالى فمياهى مغرقة" " وتعاود الغناء بـ "يا مصر نسرك فرد جناحه" و "عاد السلام"، ويتهادى صوت عصفورة مصر شادية برائعة الروائع "أمانة عليك أمانة يا مسافر بور سعيد .. لتبوس لى كل إيد حاربت فى بور سعيد" من كلمات إسماعيل الحبروك وتلحين محمد الموجي، الذى وصل الليل بالنهار لينجز لحنه الخالد "محلاك يا مصرى وأنت ع الدفة" معبرًا بصوت كوكب الشرق عن فرحة صلاح جاهين بنجاح أبناء مصر فى إدارة القناة، وعلى ذات النهج يغنى محمد عبد المطلب لجاهين ومحمود الشريف "يا سايق الغليون" ومع بشاير النصر تغنى "أحلام" بصوتها الوادع الرقيق أعذب ما صاغه قلم جاهين "يا حمام البر طير وسقف .. طير وهفهف حوم ورفرف .. على كتف الحر وقَّف والقط الغلة .. سلامات يسعد صباحك .. دى بلادنا خد براحك .. يا حمام افرد جناحك .. تسلم إن شا الله" وتتجلى عبقرية محمود الشريف فى صياغة اللحن بعذوبة نادرة، وتواصل "أحلام" شدوها الرقراق "ندراك لليوم دا يا ولدي" لعبد الفتاح مصطفى وأحمد صدقي، وتشارك نجاح سلام برائعة محمود حسن إسماعيل والسنباطى "أنا النيل مقبرة الغزاة" وتصدح بدرتها الخالدة "يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر" للحبروك والموجي، كما يغنى زوجها محمد سلمان "لبيك علم العروبة، ويهتف محمد قنديل "إحنا الأحرار" و "يا صباح الانتصار" ويصدح كارم محمود بـ "الجهاد–بلادى يا غالية- لك يا مصر دمي" ويعلن عبد الغنى السيد "الزحف المقدس" وتترنم عصمت عبد العليم "الله يا سلام" وتغرد هدى سلطان "يا صباح الحرية، أمم جمال القنال".

الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب هرع إلى عوده ليشدو برائعة أحمد شفيق كامل "تحت القنابل" ولم يترك المنولوجست محمود شكوكو دون أن يسخر من المؤامرة الخسيسة، وطاف فى ربوع مصر يجمع التبرعات سيرًا على قدميه لإزالة آثار العدوان، وجاء فيلم "بور سعيد" لعز الدين ذو الفقار وبطولة فريد شوقى وهدى سلطان وثيقة ترصد وتؤرخ لكفاح مصر، وتم تصويره أثناء المعركة وعرض فى يوليو 1957، ومن وحى المعركة يغنى العندليب "الله يا بلادنا، تحت راية بور سعيد" وفى المدينة الباسلة ووسط الحشود التى ضاق بها المكان يروى حكاية الشعب، بعد أن رواها للمرة الأولى فى 4 يناير 1960 احتفالا بوضع حجر الأساس للسد العالي، وتعد أهم أغنية وطنية ترصد مجد وصمود وكبرياء الأمة المصرية وأسباب العدوان الثلاثى وما آل إليه .. "كنا نار أكلت جيوشهم نار تقول هل من مزيد .. انتصرنا ولسه عارهم ذكرى فى تراب بورسعيد".