«المنسي» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس 

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

يجلس حمدان المنسي مستندا إلى حائط بناية هرمة، تقادم لوح أبوابها ونوافذها، وأضحى حطاما متطايرا، كأوراق الخريف، تلهو بها الرياح، أوان ذبولها..

حمدان المنسي رجل مسن، قصير القامة، أسمر اللون، أشعث الشعر، مغبر اللحية، قاسي الملامح، جاف النظرات، يحمل قلنسوة جلدية، تخفي نصف وجهه الكالح، وقد اختفت عيناه ووجنتاه، تحت حاجبين أبيضين، كثين، وبدت أصابعه الخشنة، وتجاعيد يديه، شاهدة على قساوة الدهر، ومصاعب الأيام، التي واجهها ذلك العجوز الفقير..

حينما جاء المنسي، أول مرة، إلى ذلك المكان، لا أحد يعرف من أين أتى؟ وكيف ولماذا أتى؟

يعيش، هناك، منفردا، بلا أسرة، لا أحد تربطه به أواصر عائلية من قريب أو بعيد، وليس له مكان يأويه غير ظلمة الفقر، وحيدا، يلفه صمت الليالي، ينام ويصحو على أسى الفاقة، وألم الحرمان..

تراه معظم الوقت صامتا لا يتكلم، وأحيانا لا تسمع له غير غمغمات، وهمهمات، وتنهيدات، توحي بأن وراءها إحساسا بالظلم، والقهر، وتحت رمادها بركان غضب، قابل للاشتعال، في كل لحظة..

وعلى الرغم من الفقر المدقع، الذي بات يلازمه كظله، فإنه يبدو عزيز النفس، عفيفًا، لا يتطلع إلى ما في يد غيره، وإن سأل اضطرارا، فإنه لا يلح في السؤال.

الرائحون إلى البقالة، والغادون منها، جميعهم، يجدونه، هناك، جاثما في مكانه، مفترشا بقايا حصير قديم، تآكلت أطرافه، وأمامه براد الشاي، الذي يؤنسه طوال النهار..

يقبل حامد الطويل، من داخل البقالة، مادا يده إلى كأس الشاي الأحمر، الذي يناوله إياه حمدان المنسي، فيرشف ما فيه، دفعة واحدة، ويعلن مازحا: " نكهة الشاي من يدي المنسي لا تضاهى أبدا "..

يبتسم، المعني بذلك المديح، ابتسامة فاترة، ويرد بنبرة لا تعرف المجاملة: " سخي أنت في توزيع كلمات شكرك، كما تشاء يا حامد، يا طويل! "

يعلم المنسي طبيعة محدثه، الذي عرف بفضوله، ومطاردته لأخبار الناس، إذ لا تخفى عن حامد الطويل، تفاصيل الأحداث اليومية، ولا تفوته، في ذلك المحيط، شاردة ولا واردة..

هناك، في تلك البقالة الوحيدة، يلتقي الكبير، والصغير، والعامل اليومي، والعاطل عن العمل..

ليس فيهم من يكنز الذهب والفضة.. يحيون حياتهم يوما بيوم، تاركين أمرهم لتدبير الله..

جلس ثلاثتهم، أمام البقالة، على بعد أمتار، من مجلسه، يوشوشون، ويتساءلون، وفاتهم أن المنسي الذي يتحدثون عنه، قد سمع جزءا من كلامهم، وأيقن من أنه كان محور الحديث، الذي هم فيه خائضون. فخاطبهم دون تردد:" لم التساؤل؟ لا تقلقوا، ها أنا سأجيبكم..

جئت منذ الصباح من المقبرة المجاورة، حيث اعتدت المبيت، هناك، في تلك البناية الخربة، متصدعة الجدران، وغير المسقفة.. أنتم تستغربون ذلك، وتتساءلون كيف لي أن أنام وسط ذلك الصمت الرهيب .. لا شك أن عقولكم تصور لكم أن الموتى ينهضون ليلا، ليعترضوا سبيل المارين من هناك.. إنني أعلم، جيدا، غرائب تلك الحكايات، التي ما فتئت تروى لعائلاتكم، ولأطفالكم، حتى ترسخت في أذهانهم، وباتت، في نظرهم، حقيقة لا جدال فيها..

وإني لأعجب حقا من خرافاتكم التي تضحكني!

 هل نسيتم أن العنقاء، والأشباح، والأغوال، لا وجود لها في الواقع، وليست سوى أساطير لترويع الصغار؟

 لكن الحقيقة الدامغة، التي ترسبت في عقولكم، هي أنكم خائفون، يتملككم الذعر من الموت، متناسين أن في ذلك المجهول، الذي تفرون منه، حياة أفضل من التي نحياها الآن.. “

أصابت الحاضرين بالبقالة، الدهشة، فوقفوا، فاغري أفواههم، ينصتون إلى ذلك المتحدث، المسهب في الكلام، والذي لم يسبق لهم أن رأوه، هكذا، ثائرا، ومزبدا كالبحر الهائج.. 

وتمضي أيام يغيب فيها حمدان المنسي، عن مكان جلوسه المعتاد، ويغيب معه براد الشاي الأحمر، رفيقه الذي لا يفارقه أبدا..

يتساءل البعض عن سر اختفائه، ثم يتناهى إلى الأسماع، بعد مدة، خبر وفاته.

بينما تظل صورته حاضرة، في ذاكرة ذلك الزمن الغابر، الذي لم يترك لنا غير بقايا قصص تروى، وذكريات لا تموت...