«يوميات قاض 28» قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

المستشار بهاء المري
المستشار بهاء المري

وما زال الجرجاوي حيًّا

 الغُرفةُ مُغلقة بمفتاح؛ يقفُ على بابها أحد الرجال ليَمنعَ الناسَ من الدُّخول حتى تأتي الشرطة.                                  

الأمُّ تقف أمام الغرفة تلطُم خُدودَها، وتشُقُّ جُيوبَها، النِّسوة يتَجمَّعْنَ من حولها يُواسينها في مَصابها، وولداها البالغان يحاولان تهدئتها ودموعهما تسيل على خدودهما حُزنًا على أختهما الشابة التي خطفها الموت، تلك التي لم تَهنأ بزواجها الحديث الذي لم يَدُم سوَى شُهور قليلة؛ وطُلِّقَتْ بعدها لتعودَ إلى بَيْت أبيها.

يَنكفئ الأبُ على نفسه باكيًا أمام الدَّار، يَلْتفُّ مِن حوله جَمْعٌ من رجال القرية؛ وغيرهم يتوافَدون في صَمتْ. 

سيارة الشرطة تُطلِق صافرتها من بعيد؛ ثم تقترب لتقف على مَقرُبةٍ من الدار، يهُبُّ الرجال بالوقوف، يَنخرط الأبُ في البكاء، يَشتعل صُراخ النسوة.

يدخل ضابط المباحث الغرفة، الفتاة العشرينية مُسَجَّاة على سريرها، بدينة الجسم، زُرقة في وجهها، وأثر كدمات في خدَّيها، حبْلٌ غليظٌ مما يُستَعمل في أغراض الحقل يَتدلَّى من السَّقف مَعقودٌ طرَفه على هيئة حلَقة، ويتوسط الغرفة من أسفله كرسي مقلوب.

لم يَغِب عن فِطنة الضابط أنَّ رقبتها ليس بها آثار للحَبْل؛ بالرغم من بدانتها، إذ كان سيترك أثرًا لا مَحالة، كما أنَّ اقتراب الحبْل من الأرض لا يؤدي إلى الانتحار شنقًا.

أسرَّها الضابط في نفسه واستكمل إجراءاته مُنتظرًا تقرير مفتش الصحة، تَسلَّم التقرير: الوفاة جنائية وليست انتحارًا.

اصطحبَ الأبَ والأمَّ والشقيقين إلى ديوان المركز، أجمعوا على رواية واحدة: تأخَّرَت في نومها عن المعتاد، دخلوا عليها غرفتها فإذا بها قد شنَقَتْ نفسها، أنزلوها من الحبل وسجَّوا جُثَّتها على السرير.

لم تُثنِهم مواجهتهم بالعقل والمنطق من عدم إمكانية حدوث ذلك؛ ولكنَّ العويل والبكاء كان حائلاً في تلك اللحظات عن الاسترسال في المناقشة، صرفَهٌم الضابط مؤقتًا لحين انتهاء الدَّفن؛ واسْتكملَ جمع معلوماته من مصادر أخرى.

تأمر النيابة بتشريح الجثة، تُعزَى الوفاة إلى الخَنق بالضغط على الرقبة بجسم ليِّن لا يَترك أثرًا؛ ولا تُعزَى إلى انتحار.

وسَّعَ الضابط من دائرة جمع المعلومات، أفرغ تلك المعلومات في محضر عرضَهُ على النيابة العامة التي أمرَت بضبطهم وإحضارهم، في النيابة يعترفون: لم تنسجِم علاقتها مع زوجها وسُرعان ما دبَّ بينهما الشِّقاق الذي أدَّى إلى انفصام عُرَى الزوجية بعد شهور قلائل، وبعد عودتها لبيت أبيها نشأتْ بينها وبين آخر - كانت تُحبُّه قبل زواجها- علاقة آثمة في غفلةٍ منهم، تطوَّرت تلك العلاقة إلى حملها سِفاحًا منه.

بدَت عليها علامات الحمل، أنْهَت أمُّها النَّبأ إلى الأب، أقرَّت لهم المجني عليها بفِعلتها، وبأن ذلك المُخطئ مُستعدٌ للزواج منها، رفض الأبُ الزِّيجة لأنه فقير.

دَعَا الأبُ ولديه من منزليهما إلى اجتماع عاجل، تشاوروا، ركنوا إلى أمر ما، ثم كان القرار، اجتمعوا عليها جميعًا، الأبُّ والأمُّ والشقيقان، انهالوا عليها ضربًا ورَكْلاً، ثم جاءوا "بكُوفيَّة" لفُّوها حول رقبتها وجذبوا طرفيها عكس اتجاه بعضهما، فاضت الروح إلى بارئها.

ينتشون بعد غَسْل عارهم - كما قالوا - كان هذا بعد مُنتصف الليل في هدأة الكَوْن.

يتداوَلون، يُفكِّرون كيف يكون التحايلَ على القانون، تتفتَّق أذهانهم عن فكرة الانتحار، جاءوا بالحبل وعلَّقوه في السَّقف، أتوا بالكرسي ليكون من أسفله، أرادوا تعليقها في الحبل بعد موتها، قال أحدهم إنها بدينة؛ وربما انفصَلْت رأسها عن جسمها، عَقَلوا وجهة نظره، وضعوا الجثمان على السرير وأخرجوا الواقعة على ذلك النحو.

يذهبُ الجميع إلى غياهِب السجن، ويَبقَى تُراث "متولي الجرجاوي" مع "شفيقة" مُمتدًّا إلى القرن الحادي والعشرين.