«لثمتني فراشة» قصة قصيرة للكاتب خالد العجماوي

خالد العجماوي
خالد العجماوي

تنفرج شفتاها عن ابتسامة كلما تذكرت عمار. هو لا يفارق خيالها البتة؛ بيد أنها تبتسم كلما تراءى لها في عقلها وهو يقف أمامها كالوتد، وقد تلثم بالغترة الحمراء حتى لا تكاد تظهر إلا عيناه، رافعا سبابته متوعدا، غير عابئ ولا هياب.

فتنه الملثم، وقد ألهب في خياله مشاعر البطولة والفداء. اتخذه ابن الأحد عشر ربيعا مثالا يحتذى، وأملا يبغي الوصول إليه.

تند منها ضحكة فرحة كلما تمثل لها وجهه في خيالها. كان قد وعدها أن يجتلب لها السعادة من بين براثن الأحزان. وجدها تبكي مرة بين أشجار الرمان، فعرف في نفسها الحنين إلى أبيها الذي ضاع في غياهب السجون عند المحتل. مسح على وجنتيها الصغيرتين بكفه الصغير، وأقسم أن ينتقم لوالدها يوما...

- لديك أحلام الكبار.

- نولد كبارا رغما عن طفولتنا..

- سنونك لا تتجاوز الحادية عشرة..

- أعمارنا تقاس بعدد الشهداء لا بعدد الأيام والسنين!

- كأنك شيخ كبير، خبر الحكمة وأثقلته التجارب..

أمعن في عينيها البنيتين:

- وأي تجربة أقسى من تحدى الحروب؟!

كان يكبرها بعام، وكانت أشجار الرمان مكانهما الذي ارتضياه كي يتجالسا عنده بعد المدرسة.. شعرها جميل بلون العسل، تضع فوقه قوسا عليه فراشة من حديد ملون. وجهها صاف، وصوتها دفيء، وكانت في الحديقة شجرة سامقة الطول، تغتني بأغصانها الوارفة، دانية القطوف، فلا يكاد يمر يوم حتى يستظلان بها عن شمس الظهيرة، حتى إذا ما أذن العصر أوصلها عمار إلى بيتها، فسلم على عمته وأخواتها، ثم يعود إلى بيته في الحي القريب.

تذكر حين لمحها تنظر إلى فراشة سارحة بين الزهور. ابتسم لها وقد أدرك أن ألوان الفراشة تلك هي ذاتها ألوان فراشة قوسها الذي تضعه فوق رأسها الجميل. ظل يطاردها وهو يحاول أن يمسكها بيديه، كي يضعها بين راحتيها الصغيرتين، بيد أنها كانت تتهادى في خفة وسرعة، فيركض هو يمنة ويسرة، آملا في السيطرة عليها دون أذاها، فتضحك محبوبته في سعادة:

- دعها فهي تعشق الحرية مثلنا.

- ستشعر برحابة الدنيا إن سكنت بين يديك!

- رحابة الوطن أكبر وأجمل.

- ترفرف بجناحيها كأنها تصفق!

- على جناحيها ألوان الأحمر والأسود والأخضر. ألوان رايتنا!

- نفس ألوان الفراشة فوق رأسك!

- يكفيني تلك المصنوعة من الحديد فوق رأسي. ولتتهادى الأخرى بين الورود..

- إذن أتركها لأجلك.

- وهل تتركني يا عمار؟

سكت هنيهة، ثم قال:

- لن أفعلها وإن مت.

طفقا يتأملانها وقد طارت بين أوراق السوسن، وقد شملهما صمت رزين..

ثم ندت من بين شفتيها شهقة باكية، وفي أذنيها صوت القصف كالمطر.

وهديره كأصوات الشياطين. ظلت أشجار الرمان مكانهما الذي يستظلان به قبيل العصر. يتلثم هو بالغترة، ويرفع سبابته، ويتوعد المجرمين الذين افترشوا السماء بتنانينهم الكئيبة، والتي تنفث نيرانها بين ربوع أراضيهم. حتى إذا ما سقطت لفحة من فيه الشيطان فوق إحدى المنازل انكب بجسده الصغير فوق جسدها المرتعد، ثم سرعان ما حملها بيديه الصغيرتين القويتين راكضا نحو منزلها القريب.

ندت من روحها شهقة متحسرة، وقد تمثلت أمام ناظريها أشجار الرمان المحروقة، والزهور التي لفحتها الشياطين بنارها الحارقة..

ثم إن عمار لم يأت. لم يقف أمامها ملتحفا بغترته..

بكت طويلا، صرخت عله يسمعها..

- أ لم تعدني؟

شعرت بلمسة حانية فوق شفتيها.. فتحت عينيها لتجد فراشتها وقد حطت عليهما وهي ترفرف بجناحين من لون رايتها. ضمت ثغرها.