«عفاريت النهار» قصة قصيرة للكاتبة هبة الله محمود

هبة الله محمود
هبة الله محمود

في طفولتي؛ كانت أعمدة الإنارة تقتصر على الشوارع الرئيسية، المرور في شارع جانبي ليلاً يعني دخول بيتا للرعب، كانت لديّ مهارة الجري مع حبس الأنفاس، التي أجتاز بها الشارع، ولا انظر للخلف، لأنه وحسب رواية صديقة لي، قد خطف هذا الشبحَ صديقةً -لا يعرفها أحدٌ سِواها- قد تجرأت على النظر المباشر في عينه الحمراء.

لا أعلمُ؛

هل كان هذا العفريت هو نفسُه الذي يختبيء في الظلام أسفلَ سريري، ويمنعني من التبول ليلاً، ولكنني كنت آخُذ كافة الاحتياطات، فلا أخرِج قدمي من البطانية، ولا أترك له طرفًا منها ينزلُ مِن على السرير فيُمسِك به ويصعد لي أسفلَه..

كنت طفلةً مُراوغةً؛ تجيد إدارة حربها ضد أعداءها اللدودين المعروفين؛ "أمّنا الغولة"، "أبو رجل مسلوخة"، و"الجِنْيِّة" التي تسكُن البحرَ، أمّا باقي أهل الظلام فكلهم عفاريت، بما فيهم ذلك الساكِن أسفل سريري..

كلُّ يومٍ قبل أن أنامَ؛ كنت أجمع أصدقائي، وأضع خطةً لقتلِ أحَد أعدائي؛ يدخل "جيري" في بِنطال "أبو رجل مسلوخة"، فيفقدَ توازنَه ويقفزُ في الهواءِ، تكون "السلاحف الخمسة" في انتظارِه؛ يوثقونَ يديه، يحضرونَه للساحةِ حيث يسددُ "كابتن ماجد" القاضية في عضوِه، فيقضي على ما بقي من قوتِه؛ ثمّ يأتي "مازنجر" فيحملَه من رقبتِه ليلقي به بعيدًا في البحرِ، بينما تعلو ضحكاتنا أنا و"بكار" و"حسونة"، مع صوتِ ضحكةِ "حسونة" الرائقةِ؛ كنتُ أغطُّ في نومٍ عميقٍ..

اليوم؛ ملأت أعمدةُ الإنارةِ الشوارعَ الرئيسيةِ والجانبيةِ، ملأت الأضواءُ كافةَ أرجاءِ المدينةِ، وكلّما زادَ الضوءُ؛ تراجعَ النورُ، خرجَت الأعداءُ من الظلامِ، وتطوَرت چينيا لتناسِبَ الأضواءَ؛ فلبِسَت "أمّنا الغولة" الفساتينَ ذاتِ الماركاتِ العالميةِ، وخبّأت عينَها الحمراءَ بالعدساتِ اللاصقةِ الملونةِ، وارتدَى "أبو رجل مسلوخة" البزّات الفخمةِ؛ تناسَلوا؛ فكانَ من ذُريتِهم؛ رجالَ أعمالٍ، قادةً، ساسةً، وشيوخًا تقلّدوا المناصِبَ، صاروا رِجالَ المدينةِ المُفوَهينَ، قوتُها الناعمةِ في مَظهرِها، الغاشِمةُ في أثرِها، نكّلوا بكلِّ ما هو برئٌ وطاهِرٌ، لم يقضّوا مَضجعَ الأطفالِ فقط؛ بل سَرقوا شبابَهم، لن ترى سِوى عيونًا كهلةً، وقلوبًا تآكَلتها الشيخوخةُ..

لم يعُد أعدائي مَعروفينَ، ولا مُحدَدينَ، ولا أملُكُ أصدقاءً أستعينُ بهِم، ولا خِططًا لحروبٍ؛ ينتصِر فيها الخيرُ ويُزهَقُ الشرُّ، استبدَلتُ ضِحكةَ "حسونة" بالحبوبِ المُنوِمةِ، ولم أنَمْ..