«في الجنون حكمة غائبة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور حاتم نعام

حاتم نعام
حاتم نعام

 لم يعد يكترث لهذا الزحام الذي أصبح جزءًا من يومه، خاصة أن لديه القدرة على تجاوز زحام الميدان والشارع بخفة ورشاقة، لم تكن لديه البراعة أن يتفحص وجوه المارة، ولم يشد انتباهه فوضى وازعاج الباعة الجائلين الذين احتلوا الأرصفة والطرقات بعشوائية، غايته أن يهرول بعيدا عن أخلاق الزحام، وأن يحافظ على ترتيب الأولويات في رأسه التي أصبحت آيلة للسقوط وتحتاج معركة لإخلائها.

 

تجاوز الميدان والشارع بخطوات سريعة واثقة، استقبل أول الرصيف الذي يتقاسمه الغريب والرفيق، العاطل والشاغل، المنتظر والمتسكع، خطوات قليلة تفصله عن تلك البناية العريقة وسط المدينة مقر عمله،

لكنه استدار سريعا إلى الخلف بعد أن تلقى تلك الضربة الحادة القاسية ويكتشف أنه أمام سيدة مجنونة على هيئة شبح، ثورتها عارمة لكن نظراتها منكسرة، قدميها حافيتين، ورائحة كريهة تنبعث من ملابسها الرثة المهلهلة ، تسللت وسط المارة وقررت الانتقام على غفلة من عدو لم تعرفه ولم يعرفها، تقتص من الدنيا التي صفعتها، انزعج من صرختها التي كانت تحاول استرجاع شيئا من بدايتها الأولى، والعودة إلى حياتها بأثر رجعي ، تفاقمت حالتها، لا أحد يستطيع أن يثنيها عن التراجع، حركات جنونية عدائية سريعة كأنها تتراقص على سماع موسيقى مجانية تعلوها كلمات غاضبة ونصوص مقطعة غير مفهومة.

 

 تفهم الموقف سريعاً بعد أن كان رد فعل المارة الجمود المطلق أمام من يحتمي بالجنون، فمن يستطيع القبض على عقل دائم الانفلات، وكان الاحتواء بالبعد والابعاد،

 

حاول أن يعود مرتدا إلى نفسه التي هجرت أفكاره بعد أن اربكتها الصفعة، تاه وسط الزحام لكن مازالت الكلمات ترن في أذنه "تعيش وتاخد غيرها".. تبسم قلبه قانعا بأن لكل شيء حكمة ولعل في صفعة المجنونة حكمة غائبة.