«سيناء… عتبات الجنة101» 5 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل

 

إهــــــــداء

إلى المصريات..

الأم التي تدعوا لفلذة كبدها بالحياة الأبدية وهي تعلم الحقيقة!

.. الزوجة التي تحمل جنينا لن يرى والده أبدا وتتحول رجلا (!)

الابنة التي ترفع رأسها فخرا لذكرى والدها…

من أجل الوطن ...

 

إلى سيناء

 

في صباح اليوم التالي يحزم يوسف حقائبه.. يصلى والده صلاة الظهر.. تعد والدته طعامًا مشويًّا ونصف مطهو وكثيرًا من العجائن.. تكوى نورا ملابسه وتختار بعناية الداخلية منها، خلية عمل تهتم بتوضيب أشياء يوسف.. لكنه لن يغادر قبل أن يتم أوراق انتقاله إلى وحدته الجديدة وقبل أن يودع خطيبته.. فأسرع إلى إدارة المشاة ليتسلم أوراق انتقاله للجيش الثاني الميداني تمامًا كما كان يحلم ويرتب نفسه على ذلك، وفى طريق عودته كان يقبض على أوراقه بفرحة عارمة وكأنه يتذكر عندما كان يمسك يد حبيبته التي كان يحلم بها أيام طوال قبل فجر العيد.. اليوم يشبه وقفة العيد.. هو ينتظر الساعات لتمر ويطلق تكبيرات عيده من سيناء.. يسرع الخطى في اتجاه منزل بطة يصعد السلم عدة درجات معًا كأنه يسابق الزمن ويخطو المسافة.. يجد نفسه يطرق باب الشقة كما كان يطرق باب شقة أم الشهيد ويستغرب فعلته تلك، إنما الأغرب أن بطة علمت أنه هو فأسرعت توقف حركات عزيزة تجاه باب الشقة مسرعة وهي تردد أنها طرقات يوسف.. وتتراجع عزيزة قائلة وكيف عرفت: هو الحب مش عقلك كمان.. أنت ادروشتى ولَّا إيه؟!

 

لا تكترث بطة لسخرية عزيزة.. تفتح الباب تنظر إلى خطيبها تحتضنه بعينيها وتحكم غلق جيفنيها على صورته وهو ممسك بأوراق سيناء.

بطة: ادخل.. اتفضل يا ابو يوسف.

يوسف: يتحرك ببطء في الشقة متجهًا إلى الصالون.

 

عزيزة: تتدخل في الحوار.. لا هو أنت غريب اقعد هنا في الصالة لحد ما أعمل لك حاجة تشربها وطبعًا الغداء النهاردة معانا.

 

بطة: زى ما هو مخطط يا ماما.. سبيه على راحته.

 

يوسف: ربنا يسهل آكل هنا وآكل مع أم يوسف قبل ما أسافر لسيناء.

 

بطة: سيناء يا بو يوسف.. ربنا يحفظك.

 

الحوار بين بطة ويوسف يروح وييجى بين معاني العشق والوطن وكيفية الحفاظ عليه ومدى الإيمان بالتضحية في سبيل الوطن.

 

بطة: تضحية آه.. أشجعك عليها وتكون على حساب وقتي وإجازتك.. إنما لازم ترجع بالسلامة في الآخر.. اعمل اللي يعجبك إنما.. حافظ على يوسف شريك حياتي.

 

يوسف: إن شاء الله يا فاطمة.. كله بأمر الله.

 

بطة: طبعًا إنما ما تتهورش.. أنت عاقل وعارف إن حياتي مرهونة بسلامتك.. ما يخلصكش تموتنى يا بو يوسف.

 

يوسف: أعوذ بالله.. أنتِ وطني التاني يا بطة.

 

بطة تستغرب هذا التعبير وتنظر لشباك الصالة تسرح لسماء الدنيا تعيد على سمعها وهى تبتسم "وطني الثاني" إيه الرومانسية ديه.. ماشي ماشي يا عم يوسف.. مقبولة.. وشكلها حلو بس ترجع لوطنك التاني ما تسبهوش يضيع، وأنت طبعًا مقاتل ما يرضاش بضياع وطنه الأول والتانى.

 

تدق الساعة الثانية ظهرًا وينظر إليها يترقب يوسف وما أن يهب واقفًا معلنًا مغادرته منزل خطيبته تسقط دمعة واحدة من عين بطة ثم تبتسم برضا وتهمس له: يوسف.. أنا ما عنديش غيرك.. والدي ووالدتي واخى عند ربنا لو حتغدر بيا قول من دلوقتى.

 

يوسف: ما أنا قلت لك أنتِ وطنى الثانى.. حفضل محافظًا عليه علشان أعيش فيه مش بس أعيش ليه!!

 

وللمرة الأولى يمد يده لبطة وهي أيضًا تتركها لتنام في راحتيه وكأنهما يتحسسان بصماتهما فيتداخلان كلوحة من مشربيات القاهرة القديمة.. بعد لحظات بدأت بطة تسحب يديها برفق مودعة حبيبها يوسف: لا إله إلا الله.

 

يوسف: محمد رسول الله.

 

لم يتم خطوات نزوله من سلم منزل بطة كما كان صاعدًا لها، إلا أنه لم ينظر خلفه إلى أن غادر باب المنزل متجهًا لباب منزل والده.. وعندما التقى بوالدته.. فاجأها بوجه شاحب معدوم الحيوية.. ونزول أوراقه على المائدة المحتلة منتصف صالة شقة والده.. وهو ما زال قابضًا على سلامة بطة بيمينه، وتمد أمه إليه يدها لتسلم عليه.. فيتردد لوهله.. ثم يحسم الأمر باحتضانها، ويبدو أنه يبكى من داخله، فاستشعرت الأم بقلبها دقات قلب وليدها.. لم تتحامل عليه بالأسئلة والعتاب و.. إنما قالت مؤمنة: "إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد".

 

وأخذت تكررها حتى بكت ثم قالت: سامحني يا ابنى.. سامحني.. ماحبش أسلم عليك وأنا كده.. إنما أنا حاسة اللى جواك.. إن شاء الله راجع غانمًا سالمًا.. ده قلبى اللى عمره ما كدب عليا.. إن شاء الله راجع غانمًا سالمًا يا ابني.. وعروستك مستنياك للفرح الكبير، وتطبق عليهما أخته نورا وتحيطهما بذراعيها الطويلتين: ربنا يخليكوا ليا يا رب.. يقطع الوالد هذا المشهد الدراماتيكى ويربت على كتف ابنه مشجعًا: أنت أدها يا بو يوسف.. طول عمرك راجل.. وأنا عايزك راجل برضه من أول يوم لك في سيناء.. أنا يا ابنى حمشى رافعًا رأسي في الجنة إن ابنى بطل من أبطال سيناء.. حافظ على نفسك علشان تعرف تحافظ على بلدك.. ديه نصيحتى الوحيدة لك.. ربنا معاك ومع زمايلك.

 

يبدأ في حمل حقائبه الكثيرة التي ملأتها والدته بالحلوى والعجائن والطعام المعلب والسائل.. تنتظره سيارة أحد الجيران أصر على أن يوصله إلى قيادة الجيش الثاني بالإسماعيلية.

 

تقترب الشمس من ملامسة غرب الأرض معلنة الانتظار لميلاد جديد، وفى تلك الآن يخطو يوسف أول خطواته في قيادة الجيش الثاني الميداني، يتقدم إلى فرع شئون الضباط ليتسلم جواب تحويله إلى وحدته الجديدة والأولى له في حياته العسكرية.. ومع بداية الفترة المسائية كما يطلق عليها فى معسكر الجلاء بالإسماعيلية؛ يجلس الضابط الشاب أمام رئيس شئون ضباط الجيش، ويبدو أنه أتى مبكرًا، فقد بدأ زملاؤه يتوافدون على المكتب فى انتظار استلام مستندات انتقالهم إلى وحداتهم.. الأسلحة مختلفة؛ مشاة.. مدفعية.. مدرعات.. شئون إدارية.. ويبدو التعرف عليها بسهولة من الباريهات المنتفخة المهيئة بعناية فائقة على رأس كل ضابط شاب منهم خطابه إلى وحدته، ما زال يوسف يقرأ أدعية القبول وآيات من الكتاب الحكيم تيمنًا بالمقدس أن يشفع له ويجعل قدره كما أراد وأعد العدة فى أحلامه.. وما أن جاء دوره فى استلام خطابه أمسك به وكأنه يمسك بحلمه قبل أن يفلت من يده، يتشبث بالقدر لو جاء موافقًا لحلمه الوحيد.. يستأذن فى انضباط واضح من رئيس شئون ضباط الجيش:

 

أفندم.. ممكن أعرف وحدتى؟

سيادة العقيد آه طبعًا.

يوسف: طيب فين؟

سيادة العقيد: العريش.

ويقاطعه فى لهفة: العريش.. العريش يا فندم.. أشكرك يا رب أشكرك يا فندم.. ويؤدى تحية عسكرية لرئيس الفرع، إنما يبدو أنه لكل الجيش؛ فقد أطال وضع التحية وأداها بشجاعة وانضباط متميزين.. لفتا انتباه رئيس فرع شئون الضباط.. حتى أنه قام من المجلس ومد يده إلى الضابط المتحمس وشدد عليها داعيًا له بالتوفيق.

 

ومع انصراف الضابط يوسف من مكتبه مال على نائبه هامسًا: بيبان على الوجوه كل حاجة.. الضابط ده حيكون له شأن عظيم.

 

النائب: تمام يا فندم واضح جدًّا عليه الهمة والإقدام.

سيادة العقيد: وده اللى مصر محتاجاه الأيام ديه.. ربنا معاهم.

 

وفى الطريق من معسكر الجلاء إلى العريش تزامل يوسف مع اثنين من دفعته هما الملازم ياسر والملازم غريب، اللذين تم تعيينهما معه في نفس قيادة اللواء.. ويصاحبهم نقيب محمود من قوة اللواء ومعه عربتين هامر أعلى كل واحدة مدفع تحت بوصة، فتقدم إحداهما أتوبيس نقل الضباط الجدد إلى وحداتهم والثانية خلفهم لدواعى التأمين.

 

وبعد مرور ساعتين بعد عبورهم قناة السويس من خلال المعدية نمرة 6 يميل الملازم غريب هامسًا إلى الملازم ياسر: وأنا اللى كنت فاكر إن بلدنا أبعد بلد جوه مصر، ويسمع النقيب محمود همس الضباط الجدد فيبتسم إليهما قائلًا: ما فيش بلد بعيدة، كله بيوصل على كله.. كلها أرض مصر، خليك فاكر يا حضرة الضابط.

 

ينتصب ظهر الملازم غريب ناطقًا بانضباط عسكرى حاسم لا يخلو من رائحة اللهجة الصعيدية: تمام يا فندم.. الدرس الأول: "ما فيش أرض بعيدة عن إيد الجيش.. تمام يا فندم".

 

وثير نوبة ضحك لدى النقيب محمود ويسأله: أنت منين؟

 

الملازم غريب: من قنا يا فندم.

 

نقيب محمود: من فين في قنا؟

 

الملازم غريب: من قفط يا فندم.. بلد صغيرة وفجيرة.. إنما كل اللى فيها رجالة حتى حريمها!.. ويضحك مختبرًا وقع الكلام على النقيب محمود.

 

النقيب محمود: كل ستات مصر رجالة.. وبكره تعرفوا ليه؟!

 

تحيط بالعربة هالة متصاعدة الكثافة من الغبار الناعم من رمال الطريق.. وقبل أن تبدأ علامات الاستغراب على وجوه الضباط الجدد يبادر النقيب محمود بتهدئة الموقف:

 

- طبعًا أنتوا عارفين إننا مش ها نروح اللواء من طريق ممهد أو متوقع، عشان كده غيرنا خط سيرنا من الإسفلت للطريق غير الممهد، حد فيكو يعرف يعنى إيه؟

 

- يجيب الضابط يوسف: يعنى "مدق" يا فندم.

 

- تمام.. ويبدو على النقيب محمود التأكد من سرعة البديهة لدى الضابط يوسف.

 

وتمضى ساعتان أخرتان وهم في رحلتهم إلى وحدتهم يتخطون مدقات وعرة إنما لم تنل من حماسة الضباط الشبان، ويدندن الملازم غريب وهو ينظر من الشباك الزجاجي الصغير والمضاد للرصاص، وقد علم ذلك من النقيب محمود قائد المأمورية.. مش سهل على الشبان يسهوا عن الأوطان.. وتتكرر النغمة وهو في حالة نشوى وهيام بالمنظر الصحراوي القحط حتى أنه بدأ يتغزل في جبال سيناء وينشد شعرًا من وحي اللحظة.. جاي لك يا سيناء.. ومش ناوى أسيبك.. لاء راجع لك يا سيناء.. ومش ناوى أسيبك.. ويقطع رسائل الوحى الشعرية صوت النقيب محمود: دا أنت شاعر كمان يا حضرة الضابط غريب.

 

ويتحرج الضابط غريب فى الرد.. مترددًا: لا يا فندم لا شاعر ولا حاجة بس هى.. ال..

 

ويقتنص النقيب محمود الفرصة للضغط على الضابط الشاب لاختبار مدى احتماله وأيضًا لتدقيق التوصيف لديه عن هذا الضابط الشاعر..

 

- يا فندم سيناء ديه زى.. زى والله ما أنا عارف أجول (أقول) إيه بالضبط، إنما هى تجول مرتك ماشى.. تجول بتك برديك ماشى.. تجول عشيجتك.. عشيجتك هو كده ماعريفش كيف عشجتها وغيراااان عليها حتى منيكو، ما تآخذنيش يا فندم سيادتك جولت لى اتكلم اللى جواك.. معلهش هو يا فندم اللى جولته ديه ميرى ولَّا ملكى؟ سامحنى يا فندم شكلى شندلتها على راسى... ويعاتب نفسه هامسًا: (يااااا بوووى).

 

ويضحك النقيب محمود ولا يتمالك نفسه وهو يحاول أن يقلد الضابط غريب: لا يا واد عمى ماهواش ميرى ولا ملكى.. الكلام ديه مصرى وما يوعاهوش إلا المصرى.. خابر؟!

 

ويضحك الجميع بما فيهم الجندي السائق وأفراد الحراسة المصاحبون كعناصر تأمين لنقل الضباط الجدد لوحداتهم.

 

وتبدأ بشائر الاقتراب من اللواء.. لافتات العريش على جانبي الطريق ومجلس المدينة والمحافظة ومستشفى العريش العام، والمنازل تبدو آهلة بمواطنين عنيدة تتحدى الكراهية وتأبى إلا أن تبقى متمسكة.. وبدا ذاك واضحًا للضباط الشبان من خلال تحليل المشهد على لسان الضابط يوسف: زى ما توقعت تمام.. أكشاك المعلبات والعصائر ومحلات الملابس والمخابز.. المطاعم.. العربات والناس تملأ الشوارع.. أعمدة الإنارة المتماسكة والمتصلة معًا بشبكة أسلاك ومعظمها مضاءة.. أرصفة كأرضية الشطرنج "أسود فى أبيض"، مدينة.. مدينة فعلًا صامدة زى ما كان والدي بيحكى عن بورسعيد، مش عارف ليه الشبه عندى واحد!

 

ينظر إليه النقيب محمود: صح اللى أنت قولته صح.. مدينة صامدة، وأحب أضيف لك يا يوسف: "مدينة تكتب تاريخ مصر الحديث".

 

أعجب هذا التعبير الضابط يسرى: الله يا فندم.. تعرف أنت لخصت اللى جوانا عن العريش؛ "مدينة تكتب تاريخ مصر الحديث".. تمام.. تمام يا فندم.. إلا صحيح يا فندم قربنا من الوحدة فعلًا؟

 

يرد النقيب محمود: البوابة أُدامك.. حمدًا لله على السلامة يا رجالة.. وصلنا.

 

يقف متصلبًا يوسف على سلم العربة سارحًا فى يافطة الوحدة "ك 101".. هااااا يا دفعة صحصح خلاص يا عم حنبنى لك بيت هنا وما تروحش على مصر تانى.. يلتفت يوسف لكلام دفعته الملازم يسرى الذى ما زال يقف وراءه.. ويبادر فى عتاب الأصحاب: هى ديه مصر أو قول قلب مصر.. مش القلب على الشمال لفوق يا يسرى؟ والعريش كده شمال ولفوق من خريطة مصر.. هى ديه قلب مصر يا حضرة الضابط..

 

يمد يده غريب من فوق كتف يسرى ليدفع يوسف للنزول: طب خلص يا أبو خاله لحسن قلبى آنى اللى حيجف.. وينزل الضباط الجدد تملؤهم سعادة لم تعترِهم من قبل.. هم أنفسهم قد استغربوها عندما صارحوا أنفسهم فى حكايات الليل وسمره فيما بعد.