سمكة زينة فى صحن الخلود:الفناء .. مغامرة شعرية

سمكة زينة فى صحن الخلود
سمكة زينة فى صحن الخلود

فى المجموعة الشعرية «سمكة زينة فى صحن الخلود» لرضا أحمد، والصادرة عن سلسلة «الفائزون» بالهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ثمة لغة تتشكل وفقًا لامتزاج متعدد بين الحدة والتمزق، تكشف بواسطته الذات عن استعارتها لخطاب الفناء كى تتكلم نيابة عنه بينما تتحدث عن نفسها. ذلك يبدو كأنه محاولة ضمنية، مراوغة، ولا تخلو من هزل بالطبع لاستنطاق هذا الفناء على نحو فعلي. كأن الذات تستخدم شعريتها فى دفع الفناء لتعرية جوهره بدرجة النقاء القصوى أى بخالص فداحته، ولكن من الجانب المقابل لسطوته. لا من موضع غيبيته المعتم وإنما عبر بصمته المقهورة فى العالم الممثلة فى الذات، التى تقدم نفسها ظاهريًا ككائن يحكى سيرته وحسب. كائن يحفر صورة الخراب والقمع والتنكيل فى مظاهره الرقابية والاستجوابية والعقابية المهيمنة، باعتبار ذلك الكائن مجرد فكرة استعراضية، عاجزة ومسجونة فى ذهن المطلق. تحمى المطلق بفقدها المتواصل لكل ما تتوهم امتلاكه؛ حيث كل حلم بالنجاة ليس إلا تعميقًا عفويًا خبيثًا لعلة الوجود المبهمة، الغائرة فى جسد الكائن. فكرة مؤقتة تختبر الألم والبؤس والتيه دون أن يكون بوسعها أن تصبح شيئًا مناقضًا لا يُقتل، متحرر ومحصن وخالد، أى ليس ناجمًا عن لغة. فكرة تأخذ دور الدوبلير فى لعبة الإثم، تخضع لكل جلاد بوصفها انتهاكًا كونيًا. مصدرًا للذنب كبديل لذنب القداسة. نقرأ فى قصيدة «سمكة زينة فى صحن الخلود»:
سأقول أننى غنيت
وأننى أعرف الصهيل والهدير والآلام الأخرى؛ 
لسنا فى حال أفضل
لكننا على الأقل
لا نغمس لقمتنا فى الطين
ولا نضيق على أولياء الله
زوايا الأضرحة،
لا نعاتب الرب خفية
ونطمئن ذئاب الزمن على خرافنا الهادئة؛
أوباش وحفنة من العجزة
نحن
حين نخرج لندافع عن الوطن فى الظل
نترك دقيقنا المالح يعج بالديدان
وسواقينا تعيد طلاء الماء بالصدأ،
نهرب إلى الإسفلت؛
سيارات أهدرت المسافات كلها 
ولم تجد فى الطريق
دارا واحدة.      
إن الذات حينما تتحدث إلى نفسها / الآخر بالكيفية التى تجعلها تبدو كأنما الفناء يعرض جسامته من خلال صوتها؛ فإن ذلك يسعى لإكساب ذلك الفناء الشعرية اللازمة لجعله مفككًا لنفسه، مؤوّلًا لشره، كاشفًا عن سره. ليس مجرد مصير مرعب يتحدث بلسان العابر الخاضع لهذا المصير كمفارقة إيحائية. لأن الفناء ليس ناتجًا عن حياة حقيقية وإنما هو الحياة التى التهمها الخلود استباقيًا. الحياة التى تدعى أنها ليست الموت، أنها ليست النهاية، وكأن النهاية لا تسبق دائمًا الحياة المفترضة، وكأن «الحياة» ليست نتيجة النهاية الأزلية التى تتقدم على كل وعد بـ «الخلود». الفناء هو المشيئة التى قدّرت تفاصيل الزمن أكثر من كونه يقينًا يعقب تبدده. 
الطريق بين عينين
هوة سحيقة
جرح عميق بين ضمادتين،
فلا تعش كذبتك طويلا؛
ليس للزمن وجوه يألفها
ولا للمكان سماء لا تتنازع فيها البنادق
ولا أنت بالكبش الثمين
ليهاتفك الوحي
إن لم يقتلك التدافع فى طوابير الخبز
ستقتلك خطواتك
فى الطرق المعبدة بشعائر الرب.
«كل ما تقوله سيستخدم ضدك»
فلا تظن أنك فى مأمن 
الأتقياء سيمتطون ظلك
ويصرخون:
أين كنت حين تجعدت بشرة الشمس
ونمت على ذراع القمر الخفافيش
والليل قادم؛
سيقشرون رأسك كتفاحة معطوبة
بحثا عن خطيئة آدم.
صوت الفناء إذن فى الباطن الخفى لصوت الذات. يتحدث بضمير الأنا فى صمت الشعرية. فى أغوار لغة رضا أحمد. يقول عن نفسه ـ من وراء جحيم الذات المتكلمة ـ بأن سره لا ينكشف إلا بقدر ما تحصده الشعرية من غموض مضاعف وأكثر تعذّرًا. الشعرية التى تعيّن «المشهد» كمجابهة. المشهد المنسوج من الحدة والتمزق. المرئى فى مقابل الغيبي. لكى يرى الغيبى نفسه ـ حين يمتلك صوتًا بشريًا مضمرًا ـ فيمكن للذات أن تبصره فى إذعانها المرئى له. أن تتقمص غموضه. تؤجل كابوسيته فى زمنها الداخلي. تتفاوض مع الأمان باعتباره شبحًا. تنفلت من بلاغة الحكمة، أو تلامس حافتها الغائمة. تحرّض المجهول على الصدق حين يتفاخر بأكاذيبه. وكأنه مجاز التبادل بين الذات والغيب. بين الجحيم والفناء. المجاز الذى يكافح لتضليل اللغة. الذى يبقى عالقًا فى اللغة. مشروطًا بإكراهاتها. وكأن الشعرية هى الكفاح فى حد ذاته لجعل اللغة تقاوم نفسها. تتفتت ذاتيًا كما يليق بأشلاء «مخلوق» لم تتوحد على الإطلاق وإنما تم استبدالها بسراب التكوّن . الشعرية التى تمثل الخلود المضاد. التى تحوّل الفناء إلى مغامرة تراهن خلالها الذات على دمائها لكى تصبح أبديتها الخاصة. أثر سمكة الزينة فى فراغ الصحن.
بيده الخضراء
كان الحب يقظًا 
لم يدع لقاءنا للصدف؛ 
أريد ليلة بطول نجمة بيضاء
أكتب عليها طالع رجل لا يفارقني
أريد حديقة انتظار لا تذبل فيها عيناي، 
مَن يدير هذه الضجة فى الخارج؟
مَن علق النجمة فى سماء نائية؟
المسافة ليل، 
قدمى حائرة،
رأسى نائم فى أصيصه
وجرادة تبحث بين أشواكه 
عن وجبة عشاء.
تفصح الذات عن هذه الأبدية بشكل واضح فى قصيدة «فى قلبى أبدية معك». الفناء يتكلم عن نفسه بينما تتحدث الذات عن الفراق، الذبول، النأي. هكذا تعرّف كلمات كالحب، الليل، النجمة، السماء. تعرّف بواسطة دراما البتر والتناثر التى تشيّدها رضا أحمد فى قصيدتها. البتر والتناثر كفعلين متلازمين، متزامنين، يشكلان حدثًا واحدًا، قديمًا، ملغزًا، يسبق الكلمات ويخلقها، ليختبئ الزوال فى صدوعها العمياء. «من يدير هذه الضجة فى الخارج؟»، سؤال يبدو ساخرًا لو نظرنا إليه من وعى الفكرة الاستعراضية التى يجسدها الكائن، لو أنصتنا إليه بنبرة «سمكة الزينة». ذلك لأن العرض هو الفناء الذى تحوّل خطابه المستتر شعريًا إلى ذات «يأكل الجراد من رأسها». نقرأ فى قصيدة «وحوش فى وردية ليلية»:
أفكر أننا منذ ساعة وجدنا علاجًا للخوف
بوضع  الألم على طاولة
تحفها القفازات الدامية وصلاة طبيب، 
فركنا الحزن فى منديل
يخلصنا من النداء الأسير للوداع
وارتعاش القلب،
أنت وحيد
وأنا أنتظرك كل ليلة
كى لا تفقد أحلامك
وأفقد لعبتى المفضلة.
فى هذه المقاربة تبدو رضا أحمد وكأنها تعيد تصوير الزوال خياليًا منذ البداية، أى منذ أن كانت قصة العالم خامة متوارية فى الظلام الغيبي؛ فتشكل عناصر بدئها ومسارات حكاياتها عبر الذاكرة الشخصية للأنا الشاعرة، بواسطة قصصها، دموعها، الكوابيس التى تحتل موضع حضورها. لكن هذا التصوير يبدو وكأنه يرتب هذه الذاكرة الشخصية بينما «يحكى قصة العالم» بأثر رجعي. ينقّب عن جذر الخوف، الذى يمكن أن يتحوّل ـ بهذه الطريقة ـ إلى لعبة لا تعوّض الذات عن عدم اقتلاعه، ولكنها تناوشه، تخاتل ترصده، لا تسمح له بأن يبقى مجردًا من الخدوش. يبدو أيضًا ترتيب الذاكرة كأنه هو ما يقود الفناء لتفكيك نفسه، ذلك لأن الفناء ليس نهاية الخوف وإنما أصله وطبيعته. الخوف الذى يستعمله الخلود حيث لا حياة تغاير الموت. حيث لا شيء سوى الموت. الموت الذى يوهم بالحياة عبر جمود قاتم ولئيم يدعى الحركة والتبدل ويُسمى «الزمن». نقرأ فى قصيدة « سأنتظر الموت فى شريانى التاجي»:
الوحدة 
أزيز متقطع لشريطك الجيني
يباعد بينك وبين مرآة 
تأكل بنهم أرواحك السبع، 
لو قلت إننى تفرجت على حياتى من الدور الرابع
ستصدقنى عضة البرد
والبومة التى تتسكع الآن على نافذتي،
أنا رأيت نفسى يا عالم
وعرفتها... 
بعد عشرين عامًا من الآن؛ 
عجوزا تهذى فى جنازة 
تحمل فى حضنها راديو كقلب حبيب يخفق
راديو مازال بشوكه ودمه
ووظيفته القديمة،
تحتفظ بالأمل فى برطمان أزرق بجوار الكمون
واليأس منشور مع الفلفل الأحمر فى البلكونة، 
ببعض الحبوب تطعم يمامة جريحة 
وباليمامة تنقذ غرابًا أعرج، 
تنزوى ذاكرتها فى كل رائحة مألوفة
وتصلى على كسرة ضوء، 
يقول طبيبها أن الأبدية دودة عملاقة تأكل كبدها
فتضحك،
تلك القهقهات تتدلى فوق رأسها كل ليلة 
فتقطف منها واحدة 
تبتلعها مع حبة مسكن
وتنام.
يرتب المشهد الذاكرة الشخصية كمجابهة تعيد تمثيل الفناء، ليكون هذا الأداء استشرافًا لا للذات فحسب، وإنما لما سيصير إليه الفناء بالضرورة فى ادعائه «الحياة». ما ستكون عليه الوحدة، المرآة التى يمضغ الزمن الملامح والأجساد بداخلها، البرد. الفناء يستشرف نفسه كبومة تتسكع على النافذة بواسطة البصر البشرى الذى يشاركها / يتوحد معها فى تفحص لحظة الرؤية الممتدة فى الوقت. هذيان الموت، ثرثرة العالم كونس معذّب، الأمل الصدئ، اليأس الناضج دومًا، الجروح التى يلتهم كل منها الآخر، الانطواء فى ومضات وشظايا الحنين، التوسل فى ظل الظلام. ما تتغذى عليه «دودة الأبدية». ما يصنع «الأبدية الخاصة» التى تتلصص على الفناء بضحكات وجع مزمن، ما يؤلف عزفًا منفردًا كما فى قصيدة «عزف منفرد»:
إنه جسدى أو خرابى 
لائحة أمراض تمشى على قدمين
طرحها أوراق تهذى بألم وقيح
ثمارها أقراص أسبرين
فلا تسألنى عن بيت تقصده
ظلى توابيتك التى لا تعد، 
فى الجُرح أسمع دبيب حواسى 
وهى تغلق على خوفكَ الباب.
تعزز هذه القصيدة حالة «العراء» أو «الوحشة» التى تنسجم مع التسلط القدرى للنبذ، الإقصاء، الجسد المطرود من الخلود، من حصانة الخلود، بكل ما يعنيه ذلك وينتجه. العراء الذى يجعل الخوف ملاذًا حين تراهن الذات على شعريتها فى مواجهة زوالها المحتوم. الوحشة التى تجعل الألم سكنًا حين تبنى الذات مشهدًا وعرًا ومتهدمًا  لغيابها الأبدى فى مواجهة «الأبدية» نفسها. صوت الخراب الشاحب والمتقطع من وراء باب أو غطاء تابوت.