6 سنوات على غياب «معبودة الجماهير» صوت مصر الشادى

الرئيس جمال عبد الناصر يكرم شادية مصر
الرئيس جمال عبد الناصر يكرم شادية مصر

عندما سأل أنيس منصور سيدة الغناء أم كلثوم عن أحب الأصوات إلى قلبها قالت: «شادية طبعاً، مرحة وصوتها بيشعرنى ببهجة، وهى ممثلة رائعة بجانب كونها مطربة حبوبة». 
هذا رأى سيدة الطرب العربى فى «شادية مصر» التى نحيى ذكرى غيابها السادسة، التى غنت «إن راح منك يا عين.. هايروح من قلبى فين» ستظلين باقية فى قلوبنا ووجداننا جميعاً يا شادية، تطربينا وتبهجينا بما تركتيه من تراث سينمائى وغنائى راسخ فى وجداننا الوطنى والقومى لأنك عشقتى مصر وغنيتى لها ما نردده فى كل المناسبات «يا حبيبتى يا مصر»، مثلما انتشينا بروعة تجسيدك لشخصية «فؤادة» التى تحدت ظلم وطغيان وجبروت «عتريس» وانتصرتى عليه من أجل الفلاحين الغلابة بتكاتف الغلابة عندما خرجوا بصوت واحد يزلزلون الأرض بعبارة «جواز عتريس من فؤادة باطل» فى رائعة «شيء من الخوف» !


من نهاية الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات، ظلت شادية على القمة، وكانت المراهقات تقلدنها فى تسريحة شعرها وموضة لبسها، وكل الحالمات بفارس الأحلام كن يغنين معها «يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا»، ستظل هذه الأغنية خالدة وتخلد شادية على مر الزمان، وسوف تبقى شادية رغم رحيلها أسطورة الغناء الرشيق، وستظل أسطورة سينما الزمن الجميل، التى تربينا على رومانسيتها وحضورها الطاغى الذى لم يُكتب لمطربة أخرى بما يجعلنا نترحم على ثنائيات زمان التى كونتها مع كمال الشناوى وعماد حمدى وإسماعيل يس وعبد الحليم حافظ وصلاح ذو الفقار الذى قدمت معه الأفلام الكوميدية الموقعة بإمضاء فطين عبد الوهاب !!
الذاكرة تأخذنى إلى سنوات الصبا عندما شاهدت شادية وجهاً لوجه لأول مرة، كنت وزملاء الدراسة بنهاية المرحلة الإعدادية ننتظر انتهاء اليوم الدراسى لننطلق نحو الترام الذى ينقلنا لمحطة «المظلات» التى كان يوجد بها أستديو شبرا للتصوير السينمائى لنرصد وصول النجوم، نهلل ونصفق لهم ونحن سعداء بالابتسامات التى ترتسم على وجوههم، وذات يوم ذهبنا فوجدنا كاميرات التصوير خارج الاستديو بالقرب من ترعة الإسماعيلية، كان هناك شرطى على ظهر حصان يطارد الناس لكى يبتعدوا بناء على تعليمات المخرج، كنا نبتعد ونقترب ولم نتمالك أنفسنا عندما شاهدنا شادية، صفقنا وهللنا، أشارت لنا بيدها من بعيد، اقتربنا أكثر فأكثر، واستدار الشرطى بحصانه نحونا بحركة فجائية، سقط زميل لنا على الأرض طالته عصا الشرطى بقسوة، اندفعت شادية فى فزع نحوه وهو ملقى على الأرض، أخذت تفتش فى جسده وهى ترسل نظرات الغضب نحو الشرطى القابع فوق حصانه، وأرسلت له دفعة من كلمات التأنيب والتقريع، التف حولها من يعملون بالفيلم، نادت على سائق سيارتها وأمرته بأن يحمل زميلنا إلى بيته، تلك هى شادية العطوفة الرقيقة التى تملكها الغضب لمنظر قد لا تهتز له مشاعر زملاء لها يرون أن تصرف الشرطى طبيعى وضرورى لإبعاد المتطفلين الذين يتسببون فى تعطيل التصوير!!
أحببتها من هذا اليوم وظل حبها ينمو فى قلبى، رأيت فيها التواضع والرحمة والبساطة، مثلما رأيت فيها الرقة والرومانسية والمرح على الشاشة، وتمر السنون وتأخذنى صاحبة الجلالة «الصحافة» إلى دهاليز النجوم، مهنتى أتاحت لى رؤية العالم المبهر بلا رتوشٍ، فشاهدت شادية من جديد عندما وقفت لأول مرة على خشبة المسرح فى مسرحية «ريا وسكينة»، شاهدتها فى البروفات، تلميذة تتلقى تعليمات المخرج حسين كمال وتنفذها بطاعة، رأيت النجمة العملاقة وهى تتعامل مع فريق العمل بروح المرح والتواضع والبهجة، لا تفرق بين نجم كبير وكومبارس، وحقق العرض خلال ثلاث سنواتٍ نجاحاً خرافياً اقتربتُ فيها من شادية التى كنت أراها كل ليلة خلف الكواليس وأسعد بخفة ظلها عندما تأتى لغرفة صديقى القدير عبد المنعم مدبولى الذى وثق علاقتى بها وأيقنت أن أسطورة شادية لم تكن من فراغ، ومجدها صنعته الموهبة والروح الإنسانية، والخبرة التى اكتسبتها من مدارس مختلفة لمخرجين كبار تعلمت منهم احترام الفنان لنفسه وفنه وجمهوره. 


لم تعتزل شادية الفن - كما يردد البعض - بأنها لم يعد لديها جديد تقدمه وتناسى هؤلاء أن لو شادية أرادت أن يستمر عرض «ريا وسكينة» لعشر سنوات أخرى لكان الإقبال لن ينقطع عنها، ولم تعتزل أيضاً لإصابتها بمرضٍ يحول دون مواصلتها لعملها الفنى، فحتى آخر يوم فى العرض كانت شادية فى كامل صحتها وحيويتها ونشاطها وتألقها الفنى والنفسى، صحيح أن قرار اعتزالها جاء بمثابة صدمة لمحبيها، وصحيح أن كثيراً من الشائعات أشارت إلى شخصياتٍ دينية مؤثرة كانت وراء قرار الحجاب والاعتزال التى مارستها هذه الشخصيات مع الكثير من الفنانات بمغريات كثيرة لتأمين مستقبلهن بعيداً عن الفن، إلا أننى أربأ بأن تكون شادية من بينهن، فمن يعرف شادية عن قرب يلمس فيها صدق الجانب الخير الذى كانت تمارسه فى الخفاء قبل أن تقرر الاعتزال، علمت من صديقى عبد المنعم مدبولى أنها كانت توزع جزءاً كبيراً من مستحقاتها أسبوعياً فى ظروف مغلقة على الكومبارس والراقصين والراقصات والعمال فى عرض «ريا وسكينة»، وتحضرنى واقعة عايشتها تنفى كل تلك المزايدات الرخيصة وتؤكد أن شادية كانت تفعل الخير لوجه الله، فقد شاهدت فى أحد البرامج التليفزيونية مواطناً مصاباً بمشكلة كبيرة فى فقرات الظهر، وعلمت أن الرجل أنفق وباع كل ما يملك، اتصلت بمدير أعمالها وطلبت منه أن يسافر لقرية العمار فى بنها ليقدم للرجل ما يحتاج إليه، وظل سائق سيارة شادية يذهب إليه فى بداية كل شهر وفى يده مظروف مغلق بداخله ما يعينه على شراء الدواء ومتطلبات الحياة، وعندما تفاقمت آلامه نقلته شادية لعيادة الدكتور سمير الملا لمواصلة علاجه، وعندما توفاه الله لم تنسِ شادية أسرته البسيطة وظلت ترسل لهم نفس المظروف مع السائق فى بداية كل شهر!!
ما يُحسب لشادية أنها لم تبرر اعتزالها بما يسيء للفن، لم تقل إن الفن حرام، ولم تتبرأ من أفلامها، ولم تظهر على الفضائيات لتدلى بالفتاوى الدينية، ارتدت حجابها فى هدوء ودون ضجيج، ولم تدخل نفسها فى القيل والقال، دعت الخلق للخالق وتفرغت لتنفيذ مشاريعها الخيرية، تصلى وتبتهل إلى ربها، وتتابع المستوصف الخيرى الذى أسسته فى المسجد الذى بنته بشارع الملك فيصل، وألحقت به مدرسة لمحو الأمية ووحدة لعلاج الأورام، ولا أنسى آخر مرة شاهدت فيها شادية يوم وقفت على مسرح الجمهورية وهى ترتدى فستانها الأبيض الملائكى وهى تشدو من القلب إلى القلب برائعة « خد بإيدى»، وكان هذا آخر ظهور فنى لها، رحم الله فؤادة مصر، وصوت مصر، وحبيبة مصر التى كرمها الرئيس جمال عبد الناصر وكرمتها كل الشعوب العربية المحبة لها بالتقدير والاحترام.