«ارتداد النهر» قصة قصيرة للكاتب الدكتور حاتم نعام

الكاتب الدكتور حاتم نعام
الكاتب الدكتور حاتم نعام

من حين إلى آخر يأخذه الحنين إلى تلك الأرض التي تمثل قطعة من روحه، هنا رائحة النسيم التي تعبث بمشاعره وأصوات باقية تملأ سمعه لتحرك بداخله عبقرية المكان، هنا رائحة الأرض التي لا يستطيب غيرها ويشعر معها بالانتشاء تماما كطعم الرشفة الأولى من القهوة ليستحضر معها تلك السطوة الساحرة وتقوده إلى ذكريات لازالت عالقة في مخيلته.

تحذيرات والده ونصائحه امتدت معه ما يزيد على أربعة عقود ولا تزال في ذهنه، " أرجع سالما".. تلقاها لأول مرة بحدة خشية السقوط في النهر الذي كان يتدفق بطاقة هائلة ويفيض ويطغى في فيضانه كعادته في شهور الصيف، يشاهد من بعيد بإحساس مهول والرفقاء، الزرع والحلم والمأوى وأشياء كثيرة اقتلعها الفيضان من الأرض التي غمرها في جريانه المتأجج حتى تتلاشى تاركه في النفس أثر شقاء الرحيل.

يبدد ذلك الإحساس بالخوف الشديد اللعب والمرح مع الرفقاء الذين التقاهم على هذا الجسر أصدقاءً وجيرانًا ليكتشف بعد النزوح والغربة أنه لم يعوضهم شيئا مهما ارتقى درجات سلم الحياة.

كان الوعي أبطأ من اللحاق بنصائح والده فكان يتعرض للغضب والعقاب، لكن دفعه ذلك أن ينظر للأمام حريصًا أن يعود سالما إلى بيته  بعد المدرسة وقبل الغروب بعد اللعب على جسر النهر المتسع، لكن كل مرة يحذر الاقتراب من حافة النهر خشية السقوط  تقديرا لنصيحة والده، يستحضرها الآن وهو  يسير حالما بين الأمل والرجاء على حافة النهر الذي لم يعد يحسن التدفق وانحسرت مياهه وكشف عن قاعه الذي امتلأ بالرمال الناعمة والطمي الصلب، بخطوات سريعة يصل إلى بيته سالما كعادته كي يؤكد على عهده أمام عائلته" ارجع سالما"، لكن لم يجد الوالد ولا الرفقاء ولا النهر، فعاد من حيث أتى سالما من السقوط في النهر لكنه سقط في الجنون.