«صراع دائم» قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة | تونس

الكاتب الهادي نصيرة
الكاتب الهادي نصيرة

 

شهدت تلك الربوع الريفية، البعيدة، ثلاث سنوات متتالية، قاحلة، لم ينزل فيها مطر، ولم ير فيها الفلاحون، مياه الأودية، منسابة في الشعاب، عقب نزول الغيث.  ولم يكن لدى علي أي خيار، في مواجهة ذلك الوضع، إلا النزوح إلى المدينة، بحثا عن عمل يقيه، ويقي عائلته غائلة الخصاصة، والجوع..

مضت سنتان على إقامته، هناك، حين أرسل إليه أبناء عمه، يطلبون منه الحضور، للوقوف إلى جانبهم، في وجه من هب إليهم، من أبناء عرش الجوار، لمنعهم من حراثة الأرض، بعد هطول أمطار الخريف. فما كان جواب "علي" إلا أن لبى الطلب وعاد على الفور إلى موطنه، متخليا عن عمله..

هكذا، كان من عادته ألا يتوانى، أبدا، عن مساعدة أهله، كلفه ذلك ما كلفه..

تتابعت الأعوام سراعا.. ها هو علي، يقف عند أطراف الحقل، بالقرب من البئر، ليروي عطشه وعطش حصانه، وقد وصل، للتو، عائدا من سوق القرية التي اعتاد ارتيادها..

يمرر على يده، برفق، على ظهر الجواد الأشهب، الذي بدا أنيقا، بجبهته الغراء الجميلة، وعينيه السوداوين، الواسعتين، وظهره المستقيم، ورقبته المقوسة، وعضلاته القوية، وقوائمه المنتظمة..

 غير بعيد عن كوخه، القابع في أعلى الربوة، يتراءى له جمله الواقف، وبجانبه ثلاث نياق سمان، بقوامها، ورقابها الطويلة، وآذانها القصيرة، وعيونها الكبيرة، وسنامها المكتنزة، ووبرها الرطب الناعم..  

استمر الصراع بين الأطراف المتنازعة حول ملكية تلك الأرض الزراعية، الشاسعة..

 وما لبث على أن وجد نفسه، وحيدا، يواجه خصومه، في ذات النزاع، بعد انسحاب أبناء عمه، لقلة ذات اليد، مما اضطره لبيع الجمل، من أجل توفير أجرة المحامي، لسان الدفاع في تلك القضية..  

وبمرور الأيام، وتوالي الأعوام، أضحت حياة علي وعائلته أشد صعوبة، لكن الرجل، بات يخوض معركته ضد الفقر، بعزة وإباء، وبقلب صلب، لا يعرف الجبن ولا التردد. لم يكن ذلك بالغريب عنه، إذ لا يخفى على أحد أنه من قدماء المحاربين، الذين عاشوا زمن الحرب الكونية، رجال أشاوس، أشداء، لا يهابون المخاطر، ولا يخشون نزالها..

مضت سنوات، وأجبر علي على بيع ناقتين، لدفع مصاريف التقاضي لمحاميه..

وما لبث، بعد مدة، أن باع ناقته الثالثة والأخيرة، للإيفاء بالتزاماته تجاه ذلك المحامي الجشع، الذي فشل، في جل مرافعاته، في تلك القضية المتشعبة، وبدا متخبطا، كالباحث عن إبرة في كومة قش..

 خسر علي عمله، وانتهى به الأمر إلى بيع كل ما يملك، ولم يبق له من مكاسبه، سوى ذلك الحصان الأشهب، الذي ظل صامدا، أمام عجلة الزمن، وهي تواصل دورانها، غير عابئة ببؤس الفقراء، وقهر المعذبين..

جلس علي، ذات ضحى، أمام كوخه، وعلى وجهه سحابة حزن عميق، بينما أسرع الجيران لمواساته..

وغير بعيد، من هناك، احتشد رجال ليشهدوا نفوق الحصان الأشهب الذي زلت به القدم ووقع في البئر...