غزة فى حضرة الغياب: إدوارد سعيد ومحمود درويش

 للفنان: كمال بلاطه
للفنان: كمال بلاطه

محمد شاهين

ماذا كان إدوارد سعيد سيقول لو شهد حاضر غزة وهى تتحول إلى كومة من الرماد، يفوق ما يمكن أن يحل بها لو أصابها زلزال، إذ يبدو أن زلزال القنابل العنقودية والفسفورية يفوق بركان الزلازل الطبيعية، أو هكذا ينطق الحال فى غزة بعد السابع من أكتوبر لهذا العام (2023). أى قول فى أى لغة يمكن أن يقوم بوصف الصور المرعبة التى تأتينا بها تلك الأسلحة والتى لا تميز بين رماد الحجر ودماء البشر فى أهدافها.

ربما أراد إدوارد سعيد أن يستعين بكلمات صديقه الشاعر محمود درويش فى مطلع قصيدته كزهر اللوز أو أبعد:

من أنا لأقول لكم، ما أقول لكم. أو ربما أراد أن يدخل عليها تعديلاً: من أنا لأقول لكم، ما قلت لكم. إذ أنه قال الشيء الكثير الكثير مما يجعلنا نستذكر ما يحصل أمام أعيننا هذه الأيام. ألم يؤكد بصريح العبارة أن أوسلو كانت، ولو مجازاً، على الأقل، مقبرة للقضية آلت بنا لاحقاً إلى غزة مقبرة للأطفال، كما وصفتها مؤسسات العفو الدولية وغيرها من المؤسسات. وأنه لمن قبيل المفارقة أن أصحاب أوسلو ودعاتها ما زالوا يتشبثون بسراب أوسلو، وأنهم ينتظرون الظرف أن يواتيهم ليلعقوا بعض ما يمكن أن تفرزها الظروف، ليغطوا على خذلانهم ويستمروا فى تشبثهم بأوهام أوسلو التى تثبت بما لا يدع للشك أنها كانت وما زالت هالكة ومهلكة؟ ألم يتأكد ما قاله إدوارد سعيد من خلال تصريح أدلى به مستشار رابين على شاشة تلفاز بى بى سى هذه الأيام فى برنامج نقطة حوار أجرتها نوران سلام مع ذلك المستشار الذى كشف عما كان مبيتاً فى نية إسرائيل من أن المسار  الفلسطيني، أى أوسلو، كان يظهر خلاف مايبطن، ومفاده أن مساحة الأرض التى ستقدمها إسرائيل للسلطة من أجل بسط هيمنتها عليها بداية ستعيد إسرائيل الاستيلاء عليها لاحقاً عن طريق المستوطنات، وذلك خلاف المسار السورى الذى كان مطروحاً بجانب المسار الفلسطينى والذى كان بيريس من دعاته بل ورابين نفسه الذى كان يقضى استرجاع الجولان (لو صدف أن منحتها إسرائيل لسوريا) عن طريق الحرب، وهي، إسرائيل، فى غنى عن حرب لاحقة مع سوريا لذلك الغرض. وهكذا نجح المستشار فى إقناع رابين بالمسار الفلسطيني.

وهنا لا بد من كلمة حول الخلاف بين إدوارد سعيد وياسر عرفات مردّه فهم العقلية الأمريكية وطريقة التعامل مع السياسة الأمريكية خصوصاً الخارجية منها، إذ بذل إدوارد سعيد جهوداً مضنية فى إقناع ياسر عرفات أن التعامل مع أصحاب القرار فى أمريكا يجب أن ينطلق من مبدأ الند للند، ويعنى هذا إقصاء الدونية التى تعمل أمريكا على إصباغه على الآخر بفوقية القوة والتفوق المادي. ذكر متحدث إسرائيلى فى سياق الواقعة التى ألمت بغزة لتلفاز بي.بي.سى العربى أن لإسرائيل الفضل فى أنها فتحت أبواب البيت الأبيض لياسر عرفات كنموذج لحسن النية والتعاون مع السلطة الفلسطينية والإشارة هنا إلى ما يشبه طقس حفل الزفاف الذى كان بل كلنتون إشبينه فى البيت الأبيض بحضور ياسر عرفات. ربما تبدو هذه الإشارة عابرة، لكنها فى غاية الأهمية لما فيها من طقوس مغرّدة، إذ ليس المهم الوصول إلى بهو البيت الأبيض بل ماذا تحمل فى جعبتك من مكونات معدة للتفاوض بتكافؤ معقول، كان إدوارد سعيد يصر عليه وغير ذلك فالصفقة لن تكون متوازنة أو عادلة على الأقل. عندما استقبل كارتر، رئيس أمريكا السابق، حاكم بنما المعروف بفساده وتهريب المخدرات عندما استقبله فى البيت الأبيض كان لا بد وأن يواجه كارتر اللوم على صنيعه. أجاب كارتر أنه يعلم علم اليقين أن ذلك الحاكم son of a bitch لكنه يريده his son of a bith. ورغم كل ما فى هذه العبارة من سوقية، إلا أنها تعبر عن الكثير من السياسة الخارجية الأمريكية فى مختلف الأزمنة والأمكنة،كما يعلم الجميع. وأرجو أن أنوه هنا أن هناك نفراً من المواطنين الأمريكيين ممن يناهض مثل هذه السياسة. أول مقابلة لى مع كلينيث بروكس الأستاذ بجامعة ييل فى ثمانينيات القرن الماضى والذى أحرز شهرة عالمية من خلال ريادته المعهودة فى النقد الجديد (New Criticism) بل ربما يكون الأب الشرعى لتلك المدرسة، قال لى على الفور عندما سألنى عن مسقط راسى «صحيح أن أمريكا وصلت إلى مشهد الصراع العربى الإسرائيلى متأخرة إلا أن ما سببناه من خراب لقضيتكم يفوق ما قامت به بريطانيا من صنيع، وأنه لمن المؤسف حقاً أن بلدى ما زالت تمارس التحيز السافر لإسرائيل، وتمدها بالسلاح ليكون عوناً على محاربتكم». 

وعودة إلى التساؤل الافتراضى أعلاه: ماذا سيقول إدوارد سعيد لو كان ما زال على قيد الحياة؟ ربما استكمل قوله من تعليق صديقه محمود درويش عندما كان يطلب منه قراءة شعره أن يضيف إلى القصائد المقروءة قصيدة «سجل أنا عربي». من المعروف أن محمود درويش كان يتجنب قراءة القصيدة المذكورة خشية أن تطغى شهرتها الجماهيرية على بقية قصائده. كانت إجابة محمود درويش لمن يطلبه المستمعون لتلك القصيدة: «أنا سجلت، بقى عليك أن تسجل» هل فى هذاالقول إشارة إلى الجمهور العربى أن يستكمل لاحقاً وفى هذه الظروف خصوصاً قولاً وفعلاً ما بادر به المفكران الفلسطينيان البارزان؟ وإذا أراد أن يتبعهما إدوارد سعيد بكلمات أحمد رامى فى قصيدته فلسطين التى خلدها بصوته الخالد محمد عبد الوهاب فما عليه إلا أن يردد تلك الكلمات: “فقبّل شهيداً على أرضها دعا الله باسمها واستشهدا...”.

وفى هذا السياق يمكننا أن نتصور الصديقين الراحلين إدوارد سعيد ومحمود درويش فى حوار افتراضى حول المشهد الدامى فى غزة. هذا هو إدوارد سعيد على سبيل المثال يوجه القول إلى صديقه الشاعر: بداية يا محمود يتطلب الموقف مراجعة الماضى قولاً وفعلاً علّ ذلك يؤول بنا إلى صحوة وجودية. ما رأيك يا صديقى أن تستبدل عنوان قصيدتك التى ذاع صمتها «سجل أنا عربي» بعنوان آخر «سجل أنا غزّي» وأن تشدد على خاتمة القصيدة التى تحذر من غضبى إذا جعت... لتحل محل البداية التى يتشدق بها الآخر وهى السابع من أكتوبر، بمعنى أن البداية ليست كما يدعون ما حصل فى ذلك التاريخ. هنالك بدايات لا حصر لها قبل تلك البداية. بالمثل يا محمود يمكنك، إن شئت، أن تستبدل «أحمد الزعتر» ب «أحمد الغزّي». ما رأيك يا محمود أن تهدى الغزيين ديوانك حالة حصار إلى غزة فأنت تقول فيه «حاصر حصارك لا مفر...» 

“سيمتد هذا الحصار إلى أن ينقّح

سادة (أولمب) إلياذة الخالدة،

“سيولد طفل هنا الآن 

فى شارع الموت... فى الساعة الواحدة”

فى الحصار، يصير الزمان مكاناً

تحجر فى أبده

فى الحصار، يصير المكان زمانا

تخلف عن موعده”

الشهيد يحاصرني: لم أغير سوى موقعي

وأثاثى الفقير

سيشتد هذا الحصار، ليقضينا

باختيار عبودية لا تضر، ولكن بحريةكاملة

ويمكنك يا محمود أيضاً أن تضيف إلى الهدية قصيدتين هما: «جبين وغضب» و «وطن»

جبين وغضب

وطني! يا أيها النسر الذى يغمد منقار اللهب

فى عيوني،

أين تاريخ العرب؟

كل ما أملكه فى حضرة الموت:

جبين وغضب

وأنا أوصيت أن يزرع قلبى شجرة

وجبينى منزلاً للقبّرة

وطني، إنا ولدنا وكبرنا بجراحك

وأكلنا شجر البلوط...

كى نشهد ميلاد صباحك

أيها النسر الذى يرسف فى الأغلال من دون سبب

أيها الموت الخرافى الذى كان يحب

لم يزل منقارك الأحمر فى عيني

سيفاً من لهب...

وأنا لست جديراً بجناحك

كل ما أملكه فى حضرة الموت:

جبين وغضب!

وطن

علقونى على جدائل نخلة

واشنقونى ... فلن أخون النخلة!

هذه الأرض لي.. وكنت  قديماً

أحلب النوق راضياً ومولّه

وطنى ليس حزمة من حكايا

ليس ذكرى، وليس حقل أهلّة

وطنى ليس قصة أو نشيداً

ليس ضوءاً على سوالف فلّة

وطنى غضبة الغريب على الحزن

وطفل يريد عيداً وقبلة

ورياح ضاقت بحجرة سجن

وعجوز يبكى بنيه.. وحقله

هذه الأرض جلد عظمي

وقلبى 

فوق أعشابها يطير كنحلة

علقونى على جدائل نخلة

واشنقونى فلن أخون النخلة!

أما بالنسبة لى يا محمود فلست بحاجة على التأكيد على موقفى من أوسلو ولا بحاجة أيضاً إلى التأكيد على طريقة التعامل مع أمريكا، إذ أصبح أمر القضيتين مكشوفاً للقاصى والدانى، أو بمفردات شعرك: «سقط القناع عن القناع».

لكنى سأراجع بعضاً مما كتبته سابقاً خصوصاً كتاباتى حول التعايش السلمى التى ترجمت ونشرت فى الصحف العربية.

فى جميع الأحوال، أى كتابة وأى مراجعة للماضى تظل عصية على التعبير، إذ أن ما يجرى فى غزة هذه الأيام يفوق الخيال العلمى والخيال البشري، ولن تكون اللغة أكثر من مجاز يجيز التمثيل (representation) الجزئى ولا يصل إلى هول الواقع الذى يحث بنى يعرب صباح مساء أن يراجعوا أجندتهم إن كانوا حريصين على بقاء وجودى على أرضهم.

اقرأ أيضا : حجازى: طريق الشاعر إلى الإنسانية!