«ذئاب مارقة» أحدث مجموعاته القصصية و«دمى حزينة» فى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى

سمير الفيل: أقاوم موجات الإحباط بالكتابة

سمير الفيل
سمير الفيل

محمد الشربينى شبانة

هو كاتب متعدد المواهب بشكل استثنائى، فقد كتَب الشعر والقصة والرواية والمسرحية والأغنية، وضمّته «لجنة الدراسات الأدبية» فى «المجلس الأعلى للثقافة» سنتين، اشتغل بالصحافة لعقد من الزمن، وساهَم فى جمع التراث اللا مادى لصالح منظمة «اليونسكو». صدرت له حديثا مجموعته القصصية الخامسة والعشرين تحت عنوان «ذئاب مارقة». يتحرك منذ العام 1967 وسط أسواق دمياط وشوارعها ومدارسها ومقاهيها، وحتى الآن، كمحرك ثقافى لا يُشَق له غبار، يوشك دخول عامه الثانى والسبعين.  وهذه الأيام وصلت مجموعته القصصية «دمى حزينة» إلى القائمة الطويلة لـ«جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»

عن مجموعته القصصية الجديدة، ومشواره مع الكتابة بتجلياتها المختلفة، ورؤيته للمشهد الثقافى الحالى، كان لنا معه هذا الحوار.

المولد والنشأة.. هل كان لهما أثر فى كتاباتك؟
وُلِدت فى شتاء يناير 1951، وعمِلت فى ورش الموبيليات فى سن الخامسة، وبعد سنوات انتقلت لمحال بيع الأحذية الأشهر فى دمياط، بعدها تقلّبت فى عدة مهن، وكان الصِبية يعملون أشهر الصيف، ليس بدافع الفقر بل للتدريب على العمل منذ الصغر. فى تلك الفترة المبكرة تعرفت على أسرار المدينة الحِرَفية، وعن علاقات البشر فى البيوت والأسواق وحوانيت البضاعة. لقد لفَت نظرى هذا التفاوت الرهيب بين المظاهر الدينية وبين السلوك اليومى المناقض له، غير أن التضييق على المرأة احتل مساحة كبيرة فى ملاحظاتى الأولى، ثم رواج الخرافة مثّل شطرا لا يستهان به فى التغلب على المشاكل الصحية، أو ظروف تأخر الإنجاب، أو انقطاع لبن الرضاعة، وإن خلَت المدينة من هذا التغول الملازم لها،  فقد كان هناك شيوخ يقبعون فى الريف ولهم طرق غريبة فى الإيقاع بزبائنهم ممن تعرضوا لمِحَن أسرية قاسية. فى هذا الوقت المبكر وجدت المرأة تعمل فى مهن شاقة مثل تطليع «المونة» على السقالات أثناء بناء العمارات، وبيع الخضر والفواكه على نواصى الشوارع، فمثلا يوجد مثلث: «الخرساء، وستوتة، ووهيبة» فى ميدان «سوق الحِسبة». كل منهن لها حكاية تُتداول شفاهية. وسط هذا الجو الشعبى نشأت، ويبدو أنه ترك أثرا فى كتاباتى.
من خلال قصصك وعملك فى هذه المهن.. كيف تشكّل وعيك القصصى منها؟ وما حدود الواقع والخيال فيما كتبْت؟
سأتحدث عن الواقع، فأقول أننى أتفاعل معه عبر المشاهدة، والإنصات. أحيانا أتورط فى نسيج القص كما حدث فى مجموعة «صندل أحمر»، وفى أحيان أخرى أبدو مراقِبا من بعيد للغائبين والمجانين والواقعين فى العشق، كما فى «مكابدات الطفولة والصِبا»، غير أننى لا أكتب الواقع حَرفيا بل أمدّه بشىء من الإزاحات الخيالية، التى تصنع الفارق بين النص المغرق فى واقعيته، والنص الآخر المختلف فى بِنيته ، وعلاقاته، وتشكيلاته الفنية. الناقد الحصيف وحده، يمكنه اكتشاف العلاقة الفنية فى مراوحتها كما أن لديه حلولا نقدية لاستخلاص المَتن من الهامش أو العكس. المهم فى هذه النقطة أن تُصبح عين الكاتب بصيرة، حتى لا يكتفى بالقشرة السطحية، بل تقع على كاهله مهمة السعى حثيثا نحو العمق.
اشتهرت بأنك «كاتب الحارة ومؤرخ الفقراء».. ما المقصود بهذه الجملة؟
نعم، هذا ورَد فى كتاب يخص سلسلة» الروّاد» عن «إقليم شرق الدلتا الثقافى»، أظنه يرصد حالة الاهتمام بالحارة الشعبية ورصد طقوسها، والتوغل فى مساحات مسكوت عنها فى الكتابة، أما عن مصطلح «مؤرخ الفقراء» فأعتقد أنه يُلمّح إلى الانحياز الواضح فى نصوصى القصصية للمهمشين. تهتم أعمالى غالبا بمن يسقطون فى مسيرة الحياة نتيجة الفقر والعوز، وعدم القدرة على مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فأنا من الطبقة الوسطى التى كادت تندثر منذ الانفتاح الاقتصادى سنة 1974، فقط أرصد تحولات الواقع، وأضع أبطال قصصى فى مواجهة هذا التضاد المؤلم.
كنت شاعرا ثم تحوّلت إلى السرد سواء القصة أو الرواية.. ما دوافع وأسباب ذلك؟
هذه قضية لم أتمكّن من حل شفرتها أبدا، فقد بدأت شاعرا خلال فترة حرب الاستنزاف (1969ـ 1970)، وألقيت الشِعر بوجود الأبنودى وسيد حجاب وفؤاد حداد وصلاح جاهين. أصدرْت خمسة دواوين شعرية، لكن فى انعطاف مفاجئ وجدتنى أهجر الشعر كُلّية لأُصدر 25 مجموعة قصصية. بدأت سنة 2001 وحتى 2023. ربما يكون السرد أكثر تعبيرا عن الواقع بتفصيلاته وبعمود الحكى، فيما الشعر جليل، مقدس، متعال. وربما يكون هناك نداء داخلى دفعنى لمعاودة مراقبة ذاتى، واتخاذ قرار صعب جدا لمن ذاق حلاوة الشعر وسِحره المخيف!
لك مساهمات واسعة فى أدب المقاومة والمعارك الوطنية .. ما مفهوم «أدب الحرب» بالنسبة لك؟
ربما يبدو مُستغربَا أننى لم أخض حرب أكتوبر 1973، لكننى جُنّدت بعدها بعام واحد، فى كتيبة عسكرية كانت قد خاضت الحرب بضراوة، هى الكتيبة 16 مشاة، وزاملْت مَن حاربوا ويقومون بإعداد أنفسهم للتسريح، أيضا بالعساكر «العادة» الذين جُرِحوا ويُنهون إجراءات الرفت. كل ذلك حضرته وسجّلته فى مجموعة» شمال.. يمين» وتضم 21 نصا قصصيا، تحكى يوميات جندى مستجَد، وذكرياته مع محاربين فقدوا أصحابهم، ودفنوهم بأذرعهم العارية فى تباب سيناء. أهتم فى كتاباتى بالتاريخ الشخصى للأبطال، وبالخلفية الاجتماعية التى أتوا منها. 
حصلْت على «جائزة الدولة التشجيعية» سنة ٢٠١٦ متأخرا جدا.. ماذا تقول عن ظروف هذه الجائزة؟
تقدمت مرة واحدة قبل ذلك بمجموعتى الأولى «خوذة ونورس وحيد»2001 لكنها استُبعدت لسابق فوزها بجائزة «لجنة القصة» فى «المجلس الأعلى للثقافة». رأيت أن أهتم بكتابة النصوص القصصية دون التقدم للجائزة حتى كنت هناك بالمصادفة، ودفعت بمجموعتى «جبل النرجس» 2013 للمسؤول، وفوجئت بأنها حازت الجائزة. لكن هناك من لامَنى لأن تجربتى تستحق جائزة أكبر فى رأيه. على العموم لست نادما على ما فعلْت.
السنة التالية حصلت على جائزة «يوسف أبو رية» التى ينظمها «اتحاد الكتّاب».. هل ترى لمثل هذه الجوائز فائدة أو قيمة؟
أود فى البداية ذكر أننى قابلت يوسف أبو رية فى مدينة الرقة السورية سنة 2007، وهناك توثقت عُرَى الصداقة بيننا، ولمّا قرأت أعماله لمست فيها حِسّا تراجيديا أصيلا، مع كتابة صارمة تعلن عن كاتب حقيقى. لذلك تقدمت لنيل الجائزة ليرتبط اسمى باسمه، وهو واحد من الأساتذة فى مجال القصة القصيرة مثل سعيد الكفراوى ومحمود الوردانى وعبدالحكيم قاسم وبهاء طاهر، ود. أحمد الخميسى، وبالطبع د. محمد المخزنجى. وقد سعدت بالحصول عليها، وأنا واحد من الكتاب الذين يُثمّنون كتابات الجيل الذى سبقهم، وأرى أن الكتابة سلسلة متواصلة من الاجتهاد والتجربة والرغبة فى تقديم الجديد، غير المتكرر. 
تكتب القصة القصيرة والرواية والمسرح والنقد.. ترى نفسك أكثر فى أى مجال؟
هذا سؤال صعب. لما كنت قد عملت فترة طويلة فى التدريس للمرحلة الأولى، فقد قدمت للمسرح المدرسى مئات النصوص المسرحية التى مثّلها الأطفال، وأحببت هذا العالم جدا. أبدو ككاتب محترف أميل لفن القصة القصيرة، وأراه قادرا على حَمْل أفكارى خاصة أننى أطل دائما على المشهد الحياتى، وأختار شخصياتى منه، وربما تركْت «الحبل على الغارب» لأبطالى كى يتمردوا على الواقع بطريقتهم، أنا لا أتضاد مع نوازعهم، ولا أسخَر من مناوراتهم الخفية، بل أكون سعيدا جدا بالإفلات من مصيدة السرد التقليدية.
كيف ترى القصة المصرية حاليا؟
هناك بلا شك طغيان للرواية، وبها نماذج باهرة، ولكن فى المقابل هناك طوفان من الكتابات الضحلة والركيكة التى تشبه فى بنائها الأفلام الأجنبية. أما فى مجال القصة القصيرة فهناك كتاب يعملون فى صمت، يقدمون تجارب فى غاية الأهمية، سواء فى طرائق السرد أو فى التكنيك، أو حتى اللغة. أنا واحد من الناس الذين يستمتعون بقراءة القصة القصيرة وأرى أن هناك نماذج رائعة، ربما تضيع وسط ضجيج الرواية، لكنها تحجز مقعد التميز والتفرد بلا شك. 
الجوائز العربية مثل «البوكر»، و«كتارا»، و«الشارقة» وغيرها.. هل تُحقق فكرة الإنصاف للنص الأدبى؟ 
لن أهاجم الجوائز، ولكن أدوّن ملاحظاتى فى أنها تُمنح أحيانا بشكل جغرافى، لمراعاة البعد الإقليمى، وهذا لا يمنع من وجود كُتّاب كبار فى العواصم العربية. فى نفس الوقت هناك محاولات غير مفهومة لتكريس أسماء لم تقدم فنّا عظيما بعد، بسبب فكرة «الدور».
منذ ٥٠ عاما وأكثر تعمل فى الأدب شِعرا وقصة ومسرح ونقد.. ما خلاصة هذه الخبرة؟
أشياء عديدة، من بينها، أهمية أن ينحاز الكاتب للبسطاء، وضرورة أن يكون له موقف واضح من الحياة، وألّا يتنازل عن دوره المجتمعى فى أن يوصّل كتاباته للناس بأى شكل يراه مناسبا. إضافة إلى أهمية الانفتاح على التجارب العالمية. نحن أبناء كوكب واحد،  وإن اختلفت الظروف.
الأدب الحقيقى يَنتج عن وعى واستبصار، وعدم السير فى مسارات جَمعية تخص الماضى وتخاصم المستقبل، لذلك فالعلم بوابة مناسبة لتقدم المجتمعات. والقوة لازمة للحفاظ على سلامة الشعوب وعدم امتهان كرامتها. أحب أعمال تشيخوف، وكازنتزاكى، ودستويفسكى، وألبرتو مورافيا، ونجيب محفوظ، وشكسبير، وصبرى موسى، ووليم فوكنر، وألبير كامو، والطيّب صالح، وعبدالعزيز مشرى، وحنّا مينه. هؤلاء هم آبائى الشرعيين، مثلما أنتسب إلى سيد درويش، وسيف وانلى، ومحمود مختار، وحسن فتحى، وطلعت حرب، وجمال حمدان. إن لم يكن لك آباء فسوف تبقى عاريا ووحيدا!
لك اهتمام واسع بالفن التشكيلى.. كيف تكوّن؟ وهل هناك علاقة بين اللوحة والنص الأدبى؟
قضيت فى مدينة الدمام أربع سنوات، عملت فيها بالصحافة الأدبية والفنية، وقد كان لجريدة «اليوم» ملحقا أسبوعيا يتضمن ثمان صفحات، منها أربعة ملونة. أتاح لى عملى بالصحافة التجول بين المعارض فى المنطقة الشرقية، والكتابة عن الفنانين، وزيارة مراسمهم، وتدرّبت بشكل عصامى على معالجة اللوحة فنيا، وكانت تُنشر لى تغطيات مهمة. تأكّد هذا الدور بتكليفى بالكتابة فى مجلة طليعية هى «النص الجديد»، وحين عدت للوطن كنت أحرص على زيارة « الأتيليه» لمشاهدة المَعارض، وتدوين رؤيتى النقدية التشكيلية، ولو جمعت مقالاتى تلك لاحتلت عدة كتب.
المرأة فى كتاباتك قوية.. كيف تكونت هذه الصورة عنها فى أعمالك؟ وهل هذا وليد الكتابة أَم لها أساس فى الحياة؟
أتصور أن المرأة المصرية هى الأقوى بالرغم من مظلوميتها، فهى قد تربت فى مناخ ينتصر للرجل دائما، فاتجهت للمكر والدهاء، والإفلات من سطوة الزوج أو تقتيره. كان لنا جارة تسكن بطابق أسفل بيت جدى، تضرب زوجها بقبضتها الطائشة، وكنت أراه من «الشرّاعة» يتكوم ويصرخ، ورصدت هذا فى قصة «أم إحسان». لازمنى هذا المنظر، وظهر فى مجموعة «أتوبيس خط 77». المرأة قوية وقادرة على الحصول على حقوقها، لكنها فى ذات الوقت مؤمنة بأمومتها، وتقوم بدورها الاجتماعى. المجموعة فازت بجائزة «ساويرس» فئة «كبار الكتّاب» 2020. 
تجاوزت السبعين بسنتين .. كيف ترى الكتابة بعد هذا المشوار الإبداعى الطويل؟
الكتابة موقف، وأنت حين تكون فى مواجهة أكاذيب فعليك من خلال النص السردى أن تقدم رؤيتك المضادة. ليس من قبيل البطولة أن أدعى أننى أُضِرت بشكل ما، صحيح أننى نقلت تعسفيا لمدة عام خلال وقوفى مع ممثل اليسار المصرى فى أول انتخابات فى ظل الأحزاب، من التدريس لعمل مكتبى، وظللت على المقهى أشرب الشاى وأعانى الوحدة. لكن بعدها مارست الكتابة بشكل يحمل التمرد من خلال أبطالى. أبدو سعيد الحظ أننى مُنِحت القدرة على التعبير عن أفكارى، وأن هناك قراء ونقاد يُثمّنون التجربة. أيضا هناك مؤسسات المجتمع المدنى تهتم بأمرى، وعلى المقهى ألتقى بأصدقائى، فنقرأ نصوص الكُتّاب فى مختلف بلدان العالم، ونناقشها بأريحية وتفهّم. يبدو أن الظروف مواتية لأعلن سعادتى بشكل كلى، غير نوبات اعتيادية من اليأس والإحباط، تمر سريعا ليعود إلى نفسى الصفاء الروحى الذى أعيش به حياتى فى السبعين. 
ماذا عن «شارع التبليطة» و«ذئاب مارقة»؟
هما أحدث أعمالى. تقوم مجموعة «شارع التبليطة» بحالة رصد للتحولات الاجتماعية فى العقدين الأخيرين، أعالج العلاقات الإنسانية بقدر من الرقة والصفاء والتسامح، ذلك أننى أشعر بمدى الظلم الواقع على أبطالى المنهزمين مع تلك التحولات العنيفة، مع تآكل الطبقة الوسطى، التى كانت إلى عهد قريب تحافظ على تماسك المجتمع، وتقوده نحو المستقبل.


 

;