«الرحلةُ المقدسةُ» قصة قصيرة للكاتب سيد جعيتم

سيد جعيتم
سيد جعيتم

نظرَ الطبيب لجسدِ الفرعونِ المسجى على فراشِهِ، لونُهُ ممتقعٌ، يغطيِهِ عرقٌ غزيرٌ، يكسو شفاهَهُ اللونُ الأزرقُ، عينيه غائرةٌ تكادُ الحياةُ تغادِرُها، بالكادِ يتنفسُ، صاح:

ـ السمَ يسري في عروقِ مولاي، قلبُهُ يجاهدُ لينبضَ.

تمَّ إسعافُ الفرعونِ، استردَ وعيَهُ.

ضعيفٌ طريحُ الفراشِ يتذكرُ نصيحةَ أمِهِ الملكةُ وقائدِ جيشِهِ بالتخلي عن الحكمِ لأخيهِ، بدَتْ خيوطُ المؤامرةِ التي يدبرُهَا له كهنةُ آمونِ رع تتضحُ أمامَ عينيهِ، استمالوا قائدَ جيشِهِ، زارتْهُم أمُهُ في الخفاءِ وأعلنَتْ موافقَتِهَا علي تنصيبِ أخيه بدلًا منه، بكي عندَما تأكدَ أنَّ جميلةَ الجميلاتِ التي أنَشَدَ في حبِها انحازَتْ إليِهم.

راحَ في سباتٍ عميقٍ .

صوتٌ يطنُ في أذنِهِ: ( ستذهب لأقصي الأرضِ حيثُ تغربُ الشمسِ، سيتغيرُ اسمُكَ، وستعبُرُها لتنفذَ مشيئةَ الخالقِ ).

تكررت، يعلمُ بأنَّه ليسَ نبيٌ ولا يُوحَى إليهِ، وصاياهُ العشرةِ اقتبسَها من ابن الماء أخيه بالتبني.

الضغوط تزداد، أيتمسكُ بإرث آبائِه ويخوضُ حربًا شرسةً، أمْ ينسحبُ ويجنِّبُ البلادَ ويلاتِ المواجهةِ، كلُ أقاليمِ كيميت يسوُدُها الاضطراب، الجندُ يخرجُونَ عن السيطرةِ، البلادُ الخاضعةُ لنا تسودُها الاضطرابات.

 أعادَ كهنةُ آمون رع إعمارَ معابدِهِم أضاءوا المشاعلَ، وضعفت مشاعل كهنة آتون .

علِمَ أنَّه حانَ الوقتُ ليُنَفِّذَ الرؤيا.

تحتَ جُنْحِ الليلَ، خَرَجَ بأتبَاعِهِ، سَلَكُوا طرقًا غيرَ مطروقةٍ حتي وصلوا لشاطئِ البحرِ، نظرَ خَلفَهُ لبلدِهِ... هي أحبُّ البلادِ إليِهِ... لو لم يُخرجوه ما خَرَجَ. لم يُكَلّفْ أعدائِهِ أنْفُسَهُم عناءَ مطارَدَتِهِ، جُلَّ همهِم تثبيتَ أركانِهِم، اكتفوا بدسِّ أعوانِهِم بين أتْبَاعِه.

عَبَرَ بالمؤمنين من حيث عبر أخوه بالتبني.

في خيمتِهِ راحَ يرتل:

-  تجلَّي نوُرُكَ في أفقِ السماءِ ملأتَ البلادَ بالحبِّ والجمالِ، وهبَّتُ للأرضِ الساكنَةِ الحياةَ وفجَّرْتَ فيها العيون، عمَّ نورُك الشمسي الأرضَ فأنبَتَتْ خيرًا نأكُلُ من ثَمَرِهِ، سلختَ لنا النورَ من الظلمةِ, وجهْتَ الشمسَ لمستقرِها، وجعلتَ للقمرِ منازِلَ فيعودَ آخرَ الشهرِ كأولِهِ، أنتَ فريدٌ في ذاتِكِ وكلُ المخلوقاتِ راضيةً تُسَبِّحَ بحمدِكَ.

أغمضْ عينَه وراحَ يُنشِدُ في جميلةِ الجميلاتِ:

-  يا من خَرَجَ ضوءُ القمرِ من مقلتَيكَ فأنار لي قلبِي، يا من تركْتَ روحي في روحِها، جمالُكَ وبَهاكَ ما زالوا يتملكانِي.

حاولَ أن يخلدَ للنومِ، تداعَتْ كلمات كهنةَ آمونِ عنه : (  مارقٌ، كفرَ بالآلهةِ وجعلَهم إلهٌ واحدٌ اخترعه، تركَ المعابدَ خَرِبَةً، أغضَبَ أوزيرَ المعزي الحامي للأمواتِ .

سارَ بأعوانِهِ.

جذبَهُ نورُ الزيتونَةِ المباركَةِ، أمرَ أعوانَهُ:

- اخلعوا نعالَكُم، نحنُ بالوادي المقدسِ، هنا تجلَّي نورُ الربِ لأخي فأنارَ السماءَ والأرضَ، اسجدوا للربِ الإلهِ، رتِّل:

-  استقَمْنا لكَ ربنَا الواحدِ الأحدِ، نورُكَ يملأ قلوبُنَا، سبحانَكَ يا من أحييتَ الأرضَ وأنْزَلتَ عليها الماءَ فأخرجْتَ مِنْ خيرِها شجرةَ الحياةِ للإنسان، لم تنس الماشيةَ فخلقْتَ لها الأعشابَ، ووضعْتَ قوتَ السمكِ في فمِهِ.

أعدَّ له الساقي شرابَ النعناعِ، قرَّبَهُ من فمِهِ أتاهُ صوتُ كبيرِ كهنتِهِ:

ـ لا تشربْ يا مولاي قبل أن يشربَ من أعدَّ الشرابَ.

تناولَ الرجلُ الكأسَ، شربَ منهُ، هتفَ باسم أمونِ رع، سقطَ يتلوي.

سَجَدَ لربِهِ شاكرًا. مكَّنَ له الربُ في الأرضِ فلمْ يعترضْ طريقَهُ أحدٌ، طالَتْ الرحلةُ شهورٌ عديدةٌ، تعرَّضَ لأكثرَ من محاولةِ لاغتيالِهِ.

عَبَروا الأرضَ التي تغربُ فيها الشمسُ، أهداهُ مَلِكَهَا خوذةٌ يَعلوُها قَرنَان من الذهبِ،  وصلَتْ القافلةُ لبينَ السدَّينِ، حطَّ رحالَهُ، شكا كبيرُهم إليهِ.

ـ كلُ عامٍ وفي نفسِ الموعِدِ يُغيرُ علينا نهرينِ هائِجين يهدمون السدِ، يفسدون أرضنَا وزرعَنَا، نجمعُ لكَ مالاً وتبني لنا سدًا يحولُ بينهما وبين أرضِنَا. قالَ :

- أتيتَ من بلادي إليكُم لأتمَّ هذه المهمةِ، هذه أرضٌ باركَهَا الربُ بها مَنَاجمٌ عامرةٌ بالحديدِ و النحاسِ، أعينونِي بقوةٍ لنبني السدَّ فقد اقتربَ موعدُ هجومِ النهرين.

بني سدًا من الحجارةِ وكساهُ بالحديدِ المنصهرِ، ثم كسا الحديدِ بالقِطِرِ ليكونَ فاصلاً بينَ الحديدِ والماءِ فلا يصيُبُه الصدأُ.

في ميعادِ فيضانِ النهرين وقفَ السدُ أمامَهم، لم يستطيعا نَقْبَهُ. جلسَ يرتلُ ويحمدُ ربَّه.

خارجَ خَيمتِه صوتٌ يهتفُ باسم آمونِ رع، سأُخَلصَ الناسَ من شركِك يا أخناتون .