« نبق أخضر» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبو الليل

صورة موضوعية
صورة موضوعية

غادر النوم عينيها في ذلك المساء البارد.. مازالت تنتظر المساء الدافئ محملاً برائحة الطعام الدسم.. تهدم جزء من منزلها العالي.. في سوق  قرية "الفقاعي".. عرضت خاتمها الذهبي للبيع ..   مرت بعض السنوات الخُضر..  وها هي تعافر في السنوات العجاف..  مات أبيه صغيراً .. تزوجت والدته "العايقة " في ذات العام.. تركته مع جدته "بدوية " .. 

نظر الجميع لها بشهوة الطمع ورغبة التملك .. امتلكت نهدان رجراجان وجسداً طرياً يهتز كلما تبخترت في ساحاتها الخضراء.. بعد موت زوجها "جنيدى" .. ترك لها يده المقطوعة ونظراته المستسلمة.. تكلمت شفتاها بصوت هامس.. لا تترك زوجتك للغريب.. لم يعد باستطاعتي الصمود.. الذهب يلمع..  لم يتذوق طفلها "سعيد" طعم الطفولة..  ربما في أحلامه فقط .. عاش يتيماً ووحيداً .. حاول مرات كثيرة تذوق الطفولة من بعض ثمار أشجار النبق  ..  كانت تكفي لجلب الضحكات لفمه الجائع بعض الوقت.. 

وجد في لون الخضرة ومنظر المياه المتدفقة برفق علي ترعة "الناصرية" ونس الطبيعة.. ووجد الراحة مع حكاوي الجدة عن العصافير التي تتكلم عن الرضا بحبة القمح وقطرة الماء.. حكت له جدته "بدوية" عن ذاك البعيد الذي سرق الراحة.. وكيف تركته الآلهة و لم تلعنه .. حرق الظلام كَفَّه المضيئ .. تلاشت أحلامه سريعاً .. بين الحين والآخر كانت تحاول الرؤية .. وهي معصوبة العينين .. قالها "الحافي".. الآلِهَة ترعى جسد "العايقة" .. ربما لهذا السبب .. رعاة العشب تملقوا جسدها المفتون ..

لم يكن هذا المشهد ساخناً بما يكفي .. بين أحضان خضار الريف.. وجدت "العايقة" محروقة بعد عام من تلك الضحكات ..  انبتت أيام طفلها  شقاوة طائشة  ..  ترك المدرسة متمرداً علي ملابسه القديمة  ..  عاش مع أطفال "الحلب"حزيناً لم يستطع اسمه "سعيد " أن يجلب له السعادة .. تعلم من "الحلب" الغرباء القسوة وخشونة الطباع .. "الحلب أو الغجر" كلمتان يطلقهما الفلاحين علي الغرباء الرُحّل .. يأتون لنصب الخيام في مواسم الحصاد في قري بعيدة عن بلدانهم  .. ضربته وهربت للخيمة  ..  تقاسما أرغفة الشحاتة ..

لم يدري أنه سوف يحبها في يوم ما  .. كانت "زاهية"  ..  قصيرة القامة.. مدكوكة بالشحوم والدهون علي جانبيها .. لا أدري هل هي مربعة أم مستطيلة القوام.. ولكن ما يميزها صوتها الرقيق ووجهها الناصع ذو العيون الخصراء.. ولم أدري أيضا لماذا أتت في أحلامي المراهقة .. ربما هذا ما جعلني دائما أنظر لهذا الفتي "سعيد" بحقد.. ليس من "الحلب" مثلي ولا يحب الترحال مثلي.. نحن "الحلب" نحب الحرية والانطلاق .. وهو منهزم ومستسلم ..

دسست بعض من كلمات الكراهية لوالد "زاهية".. قلت له فعل ما يفعله الأزواج مع ابنتك تحت شجرة النبق الطازجة .. خاف والدها من قتله.. ضربوه ضرباً مبرحاً ثم طردوه من الفسحة التي بها الخيام .. ورحلوا عن تلك القرية بعد موسم الحصاد لمكان آخر في محافظة بعيدة.. عاد " سعيد" للوحدة مرة آخري  .. 

كانت ثمار أشجار النبق بمثابة رشوة ممتعة..  حتي تكف أقدامه عن الجري وسط الحقول .. كان كلما عاد للماء والجبل .. تبحث عيناه عن "زاهية" وعن أشجار النبق بين الحقول .. ولكن بلا جدوى ..حتى توقف عن الجري .. حين رأي ابنه في قاعة المحكمة.