..مع اندلاع الصراع فى غزة قبل شهرين كانت أفضل المحددات التى يمكن بها تقييم هذا الانفجار ـ الذى ظن الكثيرون أنه اشتعل فجأة ـ ،هى التأكيد على هويتنا المصرية فعندما ننظر لتداعيات الحدث يكون تمسكنا بهذه الهوية هو البوصلة المرشدة لتوجهنا وفهمنا لما يدورحولنا حتى لو كانت بضع كلمات نكتبها على وسائل التواصل الاجتماعى.
تجعلنا بوصلتنا أوهويتنا لا نندفع بحدة متأثرين بشحن عام يخفى أغراضًا بعيدة تمامًا عن سلامة أمننا القومى وفى نفس الوقت لا نتردد فى اتخاذ قراراتنا الصائبة التى تمليها علينا إنسانيتنا وحضارتنا فى إنقاذ أهالى غزة.
بالتأكيد كان يمكن ملاحقة الحدث بالتعليق المستمرعليه خاصة فى ظل الإجرام الصهيونى الذى تجاوز كل حد عقلانى، فما يقوم به الاحتلال تجاه المدنيين من أهل غزة دخل نطاق الإبادة وجرائم الحرب المدانة دوليًا ويقف خلف هذا الإجرام دعم أمريكى غير محدود وصل إلى تعبئة القوة الأمريكية الكاملة لتستقر بالقرب من شواطئ المتوسط.
يؤدى التعليق المستمر إلى الانخراط فى التفاصيل التى تبعدنا عن حقيقة المشهد الكامل وفى نفس الوقت لا تجعلنا نحاول رؤية مؤشرات وطبيعة المستقبل الخاص بشرقنا الأوسط والعالم رغم بشاعة الحاضر المخضب بالدماء ، عندما ننحى هذه التفاصيل جانبًا سنجد هناك أساسيات تتحكم فى رؤية مؤشرات هذا المستقبل وأين نحن منه؟
أولى هذه الاساسيات أن أى صراع فى عالمنا هذا من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه هو رافد من الصراع الامبراطورى الأكبر بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية من أجل السيطرة على مقدرات القوة فى هذا الكوكب ويمكن الرجوع إلى حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى وأمريكا لنعرف كم عانى العالم من صراعات إقليمية كان وراءها فى الخلفية التناحر السوفيتى الأمريكى، ثانى الاساسيات أن المنخرطين فى هذه الصراعات الجانبية ماهم إلا وكلاء عن طرفى الصراع الامبراطورى الأكبر وقد يعلم هؤلاء الوكلاء حقيقة دورهم أو يتم توريطهم فيها عن طريق وكيل إقليمى يتمتع بنفوذ أكبر عند إحدى القوتين الأعظم، ثالث الاساسيات أن هذه الصراعات الفرعية والقائمين عليها من الوكلاء لا تضع فى حساباتها أى معايير إنسانية تمنعها من تنفيذ ما اتفقت عليه لأن ما يهم الوكلاء تحقيق مصالحهم المباشرة الآنية وإرضاء القوى الأعظم. رابع الاساسيات أن هذه الصراعات الفرعية تبدأ فى الخمود عندما تتلاقى القوتين الأعظم فى مساحة من التوافق من أجل تقسيم مناطق النفوذ أو الوصول الى مناطق جيوسياسية مشتركة يتعايش فيها نفوذ القوتين بأساليب أكثر هدوءًا بعيدًا عن الصدام، خامسًا وأخيرا أن هذه الصراعات بالوكالة هى أكثر وفرًا بالنسبة للقوى الأعظم لأن الاشتباك المباشر يعنى حرب عالمية فى وجود اسلحة نووية مما يعنى الفناء وفى نفس الوقت تؤدى هذه الصراعات إلى توصيل الرسائل المطلوبة أو جر إحدى القوتين إلى بحر من الرمال يستنزف قوتها.
قبل أيام اختتمت قمة منتدى آسيا والمحيط الهادى (أيبك) فى مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية رغم أهمية القمة على المستوى الاقتصادى والسياسى دوليًا إلا أنها اعتبرت حادث هامشى بالنسبة للقمة الأهم وهى اللقاء بين الرئيس الأمريكى جو بايدن والصينى شى جينبينج، لم يكن اللقاء الذى استمر 4 ساعات وعقد فى منزل ريفى بضواحى سان فرانسيسكو بين الزعيمين لقاءً عاديًا أو برتوكوليًا.
لم تخطئ بعض الصحف الأمريكية عندما شبهته باللقاءات التى تمت بين الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين و الرئيس الأمريكى روزفلت وبعده هارى ترومان أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية لتحديد مناطق النفوذ فى العالم والاستقرار على نظام دولى جديد بن القوتين الأعظم عقب الحرب أو ما عرف بنظام 1945 مرتبطًا بسنة نهاية الحرب العالمية الثانية وفق تصنيف الصحف الأمريكية لطبيعة القمة فهى قمة هدفها وضع اسس نظام دولى جديد من سان فرانسيسكوالمدينة التى شهدت توقيع ميثاق الأمم المتحدة ليدشن هذا التوقيع الملامح النهائية لعالم مابعد الحرب العالمية والذى انتهت صلاحيته بانهيار الاتحاد السوفيتى وتصدر الصين منافسة الولايات المتحدة لقيادة العالم.
بالتأكيد كانت هناك العديد من الملفات الشائكة تمتد بمساحة كوكبناعلى طاولة هذه القمة تعكس حجم المنافسة بين القوتين الأعظم وحاز على أولوية بين هذه الملفات ملف الشرق الأوسط بسبب الصراع الفلسطينى / الإسرائيلى الذى انفجر «فجأة» قبل انعقاد قمة سان فرانسيسكو بشهر لا تحاول الدخول فى متاهة تفاصيل « الفجأة» هذه فعلمها عند الوكلاء ووكلاء الوكلاء.
كان هذا الانفجار هو التوصية التى جعلت ملف الشرق الأوسط يتصدر القمة ليس من أجل المعايير الإنسانية ورفع المعاناة عن الأبرياء لكن لأن الشرق الأوسط هو منطقة نفوذ رئيسية بين القوتين الأعظم مثله مثل أوروبا وأزمتها الأوكرانية والتحرشات العسكرية اليومية بين القوتين فى بحر الصين الجنوبى وأمام شواطئ تايوان بل أن الشرق الأوسط هو الأكثر خطورة وذلك بسبب تداخل المشروعين الرئيسيين لكل من الولايات المتحدة والصين على أرضه وعند هذه النقطة يجب أن نعود بالتاريخ 3 سنوات فى مرور سريع على بعض الأحداث فى هذه السنوات المشتعلة التى سبقت القمة.
أول هذا المرور السريع عندما تعرضت أمريكا لصدمة خداع عندما وجدت الصين فى خطواتها النهائية لتوقيع معاهدة استراتيجية مع حليفتها المدللة إسرائيل لمدة 25 عامًا مع تواجد عسكرى صينى فى مينائى أشدود وحيفا وتتشابه بنود المعاهدة مع المعاهدة الاستراتيجية التى وقعتها الصين لمدة 25 عامًا أيضا مع إيران.
أصيبت واشنطن بالذهول فالصين تعيد صياغة معادلات الشرق الأوسط بطريقتها وأين فى ملعب واشنطن الرئيسى الشرق الأوسط، فالأعداء طهران وتل أبيب يتحولان إلى حلفاء برعاية صينية وستنضم لهما الباكستان المتاخمة للشرق الأوسط والتى تربطها نفس المعاهدات مع الصين لأنها البوابة البرية لمبادرة الحزام والطريق الصينية ليصبح الشرق الأسط فى أغلبه داخل دائرة النفوذ الصينى عن طريق هذه المعاهدات وتصبح مبادرتها الحزام والطريق هى المهيمنة.
تدخلت الولايات المتحدة سريعًا بحدة وعنف وأنهت العلاقة الإسرائيلية الصينية فورا بل أنشأت لجنة عسكرية مخابراتية لمراقبة أعمال حليفتها الخائنة و«فجأة» أيضا وجد السفير الصينى «جى وو» مهندس الاتفاق بين دولته وإسرائيل ميتًا فى ظروف غريبة بشقته فى ضاحية هرتسليا الراقية بتل أبيب، ولأن إسرائيل ليست كأى حليف لواشنطن فتم تعويضها ماليًا عما كانت ستكسبه من تحالفها مع الصين بالاتفاقيات الإبراهيمية مع دول الخليج أو ماعرف مجازًا باتفاقيات « السلام » ، والآن تتواجد بشكل عسكرى مباشر الولايات المتحدة فى اشدود وحيفا من خلال قواعد عسكرية.
تلقت بكين الضربة بالهدوء الصينى المعهود ولكن كان الهدوء يخفى تحضير الرد ليشاهد ساسة واشنطن الرد مذهولين، فبكين ترعى اتفاقًا بين طهران والرياض ينهى الخصومة بينهما ويفتح أبواب المصالح المشتركة وبالتأكيد يصب هذا الاتفاق فى مصلحة مبادرة الصين وتوسعها فى منطقة الشرق اوسطية، استفاقت واشنطن من وهمها بأن حلفاءها فى الرياض لا يمكن أن يستغنوا عن وجودها فوجدتهم يصافحون بكين وأعداءها الإيرانيين.
فى تلك اللحظة قررت واشنطن العودة إلى ملعبها القديم والرئيسى منذ العام 45 وبحل نهائى أو بمشروع منافس يقضى على الوجود الصينى المتوغل فى الشرق الأوسط ، فأطلقت مشروع الممرالاقتصادى أو الممر الهندى أو ممر بايدن على هامش قمة العشرين سبتمبر الماضى وهو المشروع الذى يضم حلفاءها فى المنطقة وأوروبا بالإضافة إلى المنافس الرئيسى للصين وهو الهند.
استراح ساسة واشنطن وإدارتها المعولمة فى مقاعدهم الوثيرة شاعرين بزهو الانتصار فكل شيء يخضع للهيمنة الأمريكية ويدور فى فلك قوتها لقد تم تأمين الشرق الأوسط بهذا الممر والحلفاء المتسربون عادوا للحضن الأمريكى وفى جبهة أوروبا يستنزفون عدوهم التقليدى روسيا حليف الصين عن طريق الأزمة الأوكرانية بدعم حكام أوكرانيا وعلى شواطئ تايوان وفى بحر الصين الجنوبى يتم الضغط العسكرى اليومى على بكين بمساعدة الحلفاء الآسيويين .
لم يكتف ساسة واشنطن بذلك بل أعلنوا نظرية الانفصال الاقتصادى أى فصل الاقتصاد الأمريكى عن الصينى وإنهاء أى تعاون بين الدولتين كان هذا التصعيد يحدث قبل أسابيع من الذهاب لسان فرانسيسكو والتى أرادتها واشنطن قمة اعتراف صينى بالهيمنة الأمريكية وأنه لاتوجد إلا قوى عظمى وحيدة فى هذا العالم وهى أمريكا.
فى صباح 7 أكتوبر كان الانفجار فى الشرق الأوسط وكما قلنا لا داعى للدخول فى متاهة تفاصيل هذا الانفجار « المفاجئ» فعلم تفاصيله عند الوكلاء ووكلاء الوكلاء بمن فيهم إسرائيل.
أدى الانفجار إلى انقلاب الحسابات الأمريكية فقد أصبحت متورطة فى جبهتين بسبب حليفتها المدللة إسرائيل فقوتها العسكرية ودعمها وزع بين الشرق الأوسط وأوروبا أما هدفها الرئيسى فى آسيا لمجابهة الصين أصبح بعيد التحقق وحلم الممر الاقتصادى يحترق بنيران الحرب الإجرامية على أبرياء غزة فمن يجرؤ أن يشارك قتلة تل أبيب وواشنطن فى تحالفات اقتصادية لقد سقطت واشنطن بعد الزهو فى بحر من الرمال.
توالت الأخبار الكارثية على رأس ساسة واشنطن المغرورين قبل سان فرانسيسكو هذا غير كارثة الشرق الأوسط المتورطين فيها بإجرام شديد، ومن وراء هذه الأخبار سوى بكين فالصين أصبحت زعيمة دول الجنوب المستضعفة وتطالب بكين بالعدالة للفلسطينيين وإنهاء الاحتلال والعربدة الإسرائيلية وتعلن بوضوح أن قواتها البحرية تقوم بدوريات مشتركة مع نظيراتها الباكستانية وأنها ليست تدريبات بل وجود دائم فى بحر العرب والمحيط الهندى لحماية الطريق البرى لمبادرة الحزام الطريق الممتد لميناء جوادرالباكستانى وتتسرب معلومات بأن الصين ستقيم أكبر قاعدة عسكرية فى سلطنة عمان وترد على الدعاية الأمريكية التى تروج بأن الصين تستغل الدول النامية بفخ الديون فتقدم كشف حساب لحجم الاستفادة التى حصلت عليها الدول التى تعاونت مع بكين فى مبادرتها بل تبين مدى الاستغلال الأمريكى لنفس هذه الدول .
عندما حانت لحظة القمة لم تكن واشنطن فى موقف القوة ولكنها تغوص فى بحر الرمال الذى تورطت فيه، جلس الوفد الأمريكى بقيادة بايدن يستمع فى البيت الريفى بسان فرانسيسكو لتصور الصين حول النظام العالمى الجديد وهو ليس أمر سرى بل أوضحه الاستراتيجيون الصينيون من قبل ولكن الغرور الأمريكى تجاهله.
على رأس هذا التصور تغيير مفهوم القوى العظمى التى تدير العالم فلم يعد هذا المفهوم يرتبط بدولة واحدة بل هو شراكة بين من يمتلكون القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية ولذلك تصبح القوة العظمى شراكة ثنائية بين بكين وواشنطن فرغم وجود دول أخرى تمتلك أجزاءً من المثلث إلا أن الولايات المتحدة والصين هما فقط من يمتلكا أضلاع المثلث كاملة.
يجب أن يتعايش مشروع العولمة الأمريكى مع مبادرة الحزام والطريق أو العولمة على الطريقة الصينية بشكل سلمى فى مناطق النفوذ المشترك بين القوتين مع فتح قنوات اتصال دائمة لتجنب الصدام.
نتيجة لتغير مفهوم القوة الأعظم فإن مسئولية حماية الممرات البحرية الدولية التى هى أساس روح حركة التجارة العالمية تكون الحماية بشراكة ثنائية.
بالنسبة للشرق الأوسط ستكون الصين شريكًا كاملا مع الولايات المتحدة لحل قضيته الرئيسية وهى القضية الفلسطينية ليتساوى النفوذ بين الطرفين مما يؤدى إلى تحقيق مصالحهما المشتركة سواء من ناحية الممر والمبادرة ولذلك لا عجب أن نجد مستقبلا قوات حفظ سلام أمريكية / صينية .
عند الشرق الأوسط وما بعد سان فرانسيسكو يجب أن نعيد قراءة خريطة المنطقة فى ظل هذا التوازن والتغير فى مفهوم القوة الأعظم وأين نحن من هذا المستقبل؟
يحتاج هذا التعايش الذى يتشكل الآن بين الولايات المتحدة والصين خاصة فى شرقنا الأوسط إلى قوة إقليمية ضامنة تكون ركيزة اتصال بين الطرفين وعلى دراية كاملة بطبيعة الصراعات فى المنطقة ويثق فيها الجميع وتمتلك المقومات الحضارية والدينية والثقافية ونسجت بتاريخها الراقى كل ذلك فى رسالة إنسانية مازال العالم ينهل منها حتى الآن وحققت بذلك زعامة إقليمية بامتداداتها العربية والافريقية والمتوسطية ولأنها أمة عريقة فمشروعها وطنى شريف قائم على العدالة والنزاهة لذلك لا تعرف سياستها أساليب المراوغة والخداع ولا تتوافر كل تلك الصفات إلا فى الأمة المصرية ودولتها الحديثة التى تحافظ على كل هذه المقومات.
لذلك لم يكن مستغربًا بعد هذا التغير العالمى الفارق ومع تشكل بدايات نظام دولى جديد أن يصرح وزير خارجية روسيا سيرجى لافروف «ـن مصر تمتلك قدرات كدولة وكلاعب عالمى إلى ما بعد الشرق الأوسط والقارة الإفريقية وأنها أصبحت لاعبًا عالميًا ودورها يتجاوز قضية التسوية فى الشرق الأوسط» أو نجد الاتحاد الأوروبى يعيد حساباته ويعرض شراكة كاملة على مصر وتتحرك المؤسسات الدولية الاقتصادية تجاهنا بجدية وتتوقف عن المراوغة وتبدى وتقدم التعاون.
لقد أصبح المجتمع الدولى على يقين أن تداعيات ما بعد قمة سان فرانسيسكو تعطى العالم نظامًا عالميًا جديدًا بعيدًا عن الهيمنة البغيضة وفى قلب هذا النظام الجديد بوجود حضارى مؤثر ونزيه وعادل الأمة المصرية.