حديث الأسبوع

نكوص فرنسا فى معاقلها التقليدية

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

عبد الله البقالى

علاقات فرنسا بمستعمراتها السابقة ليست على ما يُرام منذ فترة ليست بالقصيرة. فقد توالت الارتدادات العنيفة التى هزت أركان هذه العلاقات انتهت فى كثيرٍ منها إلى مغادرة (حتى لا نقول تعبيرًا آخر) فرنسا لكثير من مواقعها التقليدية الاستراتيجية التى كانت تعتبر إلى وقت قريب معاقل رئيسية لفرنسا.


ولم يعد خافيًا اليوم أن موجة تنامى مشاعر العداء الشعبى العام تجاه فرنسا فى كثيرٍ من المستعمرات الفرنسية السابقة خصوصًا فى القارة الأفريقية، أضحى حقيقة ثابتة، لم يعد ممكنًا إنكارها أو التستر عنها. والسبب الواضح فى ذلك، الذى لا يتحمل أى تأويل، يكمن فى أن شعوب المستعمرات السابقة لفرنسا الاستعمارية، خصوصًا فى القارة السمراء لم تعد تطيق وجود علاقات بلدانها مع فرنسا قائمة أساسًا، وبصفة رئيسية على خدمة المصالح الفرنسية الاقتصادية منها والسياسية، وأن المستعمرات القديمة مجرد خزان لكثير من المواد الأولية وللثروات الباطنية التى تشحن جميعها إلى فرنسا لتلبية حاجيات المجتمع الفرنسى الداخلية والخارجية، وهى بذلك علاقات غير متوازنة فى خدمة المصالح الفرنسية فقط. وتسود قناعة عامة لدى شعوب هذه الدول بأن وجود علاقات بهذه الاختلالات كان ولا يزال، سببًا رئيسيًا من جهة، فى الثراء الذى تعرفه فرنسا، ومن جهة ثانية فى التخلف المدقع الذى تعيشه دولهم.


حينما نحاول أن نرصد التطورات والمتغيرات التى تؤكد وجود العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة فى منطقة اهتزازات عنيفة، نستحضر فى هذا الصدد طرد القوات الفرنسية من الأراضى المالية، التى قيل إنها كانت موجودة هناك للتصدى للجهاديين المتطرفين، بما كان يسمح بوجود قاعدة عسكرية فرنسية وآلاف الجنود فى أدغال أفريقيا، لكن رغم هذا الوجود الفرنسى العسكرى فإن أنشطة الجهاديين المتطرفين زادت وتنامت، و اعتبر الوافدون العسكريون الجدد فى مالى أن الوجود العسكرى الفرنسى يندرج فى سياق أهداف أخرى غير معلنة، مما دفع بهم إلى مطالبة القوات الفرنسية بمغادرة التراب المالي. كما اقتدى حكام النيجر بنظرائهم الماليين، حيث طالبوا بدورهم القوات الفرنسية بمغادرة التراب الوطني، لتلحق بهم بعد فترة وجيزة دولة النيجر، حيث أطاح العسكر بنظام الرئيس محمد بازوم، ومباشرة بعد ذلك طردوا السفير الفرنسى فى نيامى والقوات الفرنسية هناك. وحاول قصر الإليزيه فى باريس معارضة الانقلابيين وعدم الاعتراف بالنظام الجديد بدعوى وصولهم إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري، ولم يجد أدنى خجل فى ذلك وهى نفسها فرنسا التى دعمت محمد إدريس ديبى الذى وصل إلى الحكم فى تشاد بنفس الطريقة، أى بانقلاب عسكرى بعد اغتيال والده.


التحديات الكبيرة التى تواجهها فرنسا مع مستعمراتها السابقة لم تقتصر تداعياتها على خارج فرنسا، بل كان لها صدى قوى فى الداخل، ولم ينحصر ذلك فى فضاءات النقاش العمومى فى وسائل الإعلام والمنتديات، والتى لم تخل من انتقادات حادة لسياسة فرنسا تجاه الدول الأفريقية التى كانت مستعمرات فرنسية سابقًا، من ذلك القول بأن (فرنسا وقعت فى مصيدة الساحل بسبب مواقف الرئيس إيمانويل ماكرون واعتماده خطابا استعماريا، مما أجَّج مشاعر الكراهية فى صفوف مواطنى المنطقة)، بل فى الأوساط السياسية أيضًا.
وفى هذا الإطار نشر سياسيون من حزب الحركة الديموقراطية الفرنسية الذى ينتمى إلى يمين الوسط، ومن حزب الجمهوريين اليمينى تقريرًا، اشتغل عليه معدوه لشهور عديدة، واعتمد إنجازه على إجراء لقاءات ومقابلات مع العشرات من رجال ونساء السياسة فى فرنسا وفى العديد من الدول الأفريقية، ومع شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية وممثلين عن المجتمع المدني. وحاول التقرير فهم وتفسير التراجع الكبير للنفوذ الفرنسى فى القارة الأفريقية بالخصوص. وخلص التقرير إلى التعبير (عن الأسف لكون فرنسا الحريصة على تجديد علاقاتها مع أفريقيا وتجنب أخطاء الماضى والمحرومة من معرفة تفصيلية للقارة، معتمدة على خيارات سياسية غير مؤكدة ترفض الآن تبنى سياسة أفريقية حقيقية). وألح التقرير على ضرورة اتباع نهج استراتيجى جديد للبحث عن علاقات أكثر مساواة. كما نصح التقرير الحكام فى فرنسا بأهمية تغيير الأسلوب فى التعامل وإلى (تبنى موقف متواضع والكف عن إلقاء خطابات كبرى ترفع التوقعات كثيرًا لكنها تنتهى بخيبات أمل).


هذا النكوص الفرنسى فى معاقله الرئيسية السابقة قابلته أطماع روسية وصينية فى تثبيت حضور قوى هناك، وهو الحضور الذى اعتمد مسالك اقتصادية وتجارية سالكة، بدأت نتائجها فى الظهور بسرعة كبيرة، وتمثلت فى استثمارات صينية ضخمة وفى اتفاقيات تعاون اقتصادية روسية وصينية مع العديد من الأقطار فى القارة السمراء.
ويحاول الرئيس الفرنسى ماكرون، فى مسعى يبدو متأخرًا، جاء فى الوقت بدل الضائع تدارك الأمر قبل انتقال العدوى إلى دول و مناطق أخرى باستمالة العواطف حينما رد على الانتقادات الداخلية و الخارجية بالدعوة إلى « إجراء تغييرات تاريخية فى بصمة فرنسا ما بعد الاستعمار فى أفريقيا، عبر التخلى عن الاستراتيجية الفرنسية الأفريقية التى سعت بموجبها فرنسا إلى إبقاء أفريقيا تحت سيطرتها، و تعرضت غالبًا إلى انتقادات بسبب النهج غير السوى فى علاقاتها مع القارة الأفريقية«.


هذه التطورات التى تكشف النكوص الاستراتيجى لفرنسا فى العالم، وتحديدًا فى معاقلها التقليدية، تؤكد أن فرنسا الماضى والتاريخ، التى كانت تبسط سيطرتها على جزء مهم من الكرة الأرضية، وحاضرة بقوة فى ساحة العلاقات الدولية كفاعل رئيسي، تختلف عن فرنسا الحاضر واليوم، الذى تقلص فيه نفوذها وأفل حضورها، وكادت تتحول إلى ملحقة لقوى عالمية أخرى.