«فرحة ما تمّتْ» قصة قصيرة للكاتبة فاطمة وهيدي

الكاتبة فاطمة وهيدي
الكاتبة فاطمة وهيدي

اخترقت رائحة الشواء أنفه، ابتلع ريقه الذي شق جفاف حلقه ونزل بسرعة وعنف، كجَلدة سوط على معدته الخاوية.

تأوهت معدته وأعلنت تذمرها على الجوع، بإطلاق أصوات لا يمكن أن تتفق ومقولة إنَّ المعدة الخاوية تسكنها العصافير، فهذه المعدة بها ثعابين تتضور جوعًا، هذا الجوع اللعين جعلها تطلق أصواتًا كقرع الأجراس.

تحسس بطنه، وتنّبه أنَّ لعابه بدأ يسيل، رفع يده ليمسحه بطرف الخرقة البالية التي يرتديها، امتزج طعم التراب العالق بها مع لعابه ليقطع حلمه بأنه يبتلع قطعة من هذا الدجاج الذي يلتهمه هذا الأكول الجالس عند طاولة على الرصيف المقابل له.

فجأة تنّبه الرجل إليه، رفع يده ممسكًا بقطعة من الطبق المكدس أمامه بالدجاج، ابتهج الولد وهمّ بالذهاب صوبه، وقبل أن يتحرك وجد الرجل يقذف بما أمسكه في الهواء، في اتجاه مقارب له جدًّا.

غيَّر الولد وجهته، ورأسه مرفوع عاليًا وعيناه تكادان تقفزان من مكانهما لتلتقطا قطعة الدجاج الطائرة في الهواء، وقعت قطعة الدجاج على الأرض أمام كلب وقف يلهث هو الآخر ويتنمَّر معلنًا عن رغبته في مشاركة الرجل وجبته، فأسرع بالتقاط قطعة الدجاج وألتهمها كاملة.

حدث الولد نفسه قائلًا:

-       يا له من حقير هذا الأكول الذي انصاع لتنمُّر الكلب ورغبته، ولم يجذب انتباهه صوت أمعائي التي تلتف على نفسها وتصدر صريرًا عاليًا لا يمكن تجاهله!

نكس الولد رأسه معلنًا استسلامه وعدم محاولته الخوض في معركة مع الكلب على قطعة الدجاج، موقنًا أنَّ الكلب سينتصر، وربما كان هو أكثر جوعًا منه ولم يلتهم شيئًا مثله منذ عدة أيام.

غادر الولد من أمام المحل، ولم يستطع تحديد وجهته، فقد شغل الجوع كل تفكيره، ولم تعد لديه القدرة على التفكير في أي شيء سوى إيجاد ما يسد رمقه به، ليسكت هذه الثائرة التي لا تكف عن إصدار أصوات مزعجة.

أطلق الولد العنان لقدميه لتأخذاه في الطريق الذي تريانه مناسبًا، ولكنه على ثقة أنهما ستختاران طريقًا مزروعة بالحشائش الخضراء، لا لشيء إلا اتقاء لقيظ الأسفلت الذي يلسعهما بلا رحمة، كل ما سيفعله لمساعدتهما هو التدقيق في موضعهما قبل أن يخطو، حتى لا تصاب بقطعة زجاج مكسورة أو مسمار صدئ ملقى بين الحشائش.

على جانب الطريق يتوقف فجأة، بعد أن جذب انتباهه صندوق قمامة مكتظ بالنفايات، ربما مل من أحماله،  ففاض مائلًا وقد تناثرت بعض محتوياته على الأرض.

تلقنه القطة التي تنبش في الصندوق درسًا في البحث عما يمكن أن ينفعه، يسرع ليسبقها إلى اقتناص أي شيء يمكن التهامه؛ فطعم الخذلان والخيبة وعدم شجاعته في مواجهة الكلب ما زالت تطارده، وها هي ذي الفرصة قد سنحت أمامه ليثبت لنفسه أنَّه شجاع، وأنَّ مغادرته لساحة المعركة أمام كلب لم تكن جبنًا بقدر ما كانت إشفاقًا على الكلب من الجوع الذي يشعر به!

والآن الاختيارات متعددة أمام القطة، ولكن يجب أن تكون له هو الأولوية في الاختيار .

 

أزاحها بيده وأخذ ينقب في الأكياس المتناثرة أمامه، وجد أصنافًا متعددة؛ بقايا مكرونة تفوح رائحة العفونة منها، ورغم أنَّ طعمها مختلف قليلًا هذه المرة عن تلك التي التهم فيها طبق مكرونة من على عربة تقف على قارعة الشارع الذي يقطن به "الغول" حينما استدرجه أول مرة، لا ضير من التهامها دون التركيز في رائحتها.

تصاعد صوته متسائلًا:

-       هذه عظام دجاج لم يترك أصحابها بها قليلًا من اللحم تحسبًا لوجود من سيبحث عنها فيما بعد -يا لهم من أوغاد- وبواقي ثمار تفاح عاطبة طعمها مزيج من مرارة وحموضة، فلماذا يشتريه الناس إذن؟! كيف يمكن أن يتغير طعمه من حلو إلى مر، كيف تتغير الأشياء بهذه السرعة، تمامًا مثلما يتغير (الغول)؟ هذا القاسي العبوس الذي لا يتعامل إلا بالضرب والسباب، ولا يكون وديعًا إلا حينما يحصل منا على ما جمعناه من قروش طوال اليوم.

آه الصندوق..

أين نسيته!!

صندوقي..

صندوق تلميع الأحذية.

يا الله ماذا سأقول للغول حين أعود؟

هل تبخر؟!!

عندما تكون حصيلة ما جمعته غير مُرضية له يكون نصيبي الضرب أو السب حسب درجة غضبه.

ماذا سيفعل بي إذا قلت له إنني فقدت مصدر رزقه؟

آه.. نعم، لقد نسيته أمام محل الدجاج المشوي، بجوار الرصيف واتجهت إلى الحديقة.

أسرع الولد يسابق الريح ليبحث عن صندوقه الصغير حتى لا يُعرَّض لعقاب كبير من هذا الشخص المقيت، هو اسم على مسمى "غول" اسمًا وفعلًا!

تعثر دون أن يتنبه في خيط لا يعرف بدايته من نهايته، فسقط على الأرض وارتفع صراخ طفل صغير، أخذ يشير إليه ويبكي. أتى والده مسرعًا، وأخذ يهدئ من روعه ويتحدث إليه ويطيب خاطره، والولد يجثو على الأرض في محاولة للتخلص من الخيط الذي تشابك والتف بشكل عنيد حول قدميه.

ما إنْ تحرر الولد من هذا الشَرك وأفلت الخيط في لحظات حتى زاد بكاء الطفل الصغير وعلا صراخه، ولكنه هذه المرة كان يشير نحو السماء!

رفع الولد رأسه ليرى السبب الذي أبكى هذا الطفل، فوجد طائرة ورقية ملونة مزركشة ترتفع وتحلق بعيدًا حتى اختفت.

الآن فقط أدرك لماذا بكى الطفل، طارت لعبته بعيدًا، شعر الولد بالأسى نحو هذا الطفل، يا له من تافه، لماذا يبكي ويصرخ هكذا على قطعة ورق ومجموعة من الخيوط؟

منذ دقائق طارت قطعة الدجاج أمامه والتهمها كلب، ورغم حسرته لم يبكِ ولم يصرخ وتقبل الهزيمة برجولة!

نظر الولد صوب الطفل ولسان حاله يقول ساخرًا:

-       آه لو أدرك هذا الطفل أن هذه اللعبة التافهة ربما تشعر بسعادة الآن بعدما تخلصت من إزعاج هذا البائس المزعج.

نفض الولد الحشائش العالقة بملابسه الرثة وذهب مسرعًا لاستكمال مهمته في البحث عن صندوقه المفقود، داعيًا الله أن يعمي أعين المارة عنه حتى لا يُعرَّض للعقاب في المساء.

لم تفلح محاولاته في إيجاد صندوقه الخشبي، فعاد يجر أذيال خيبته ويردد أسبابًا واهية لسردها على الغول حتى يخفف من عقوبته المنتظرة.

وصل الولد إلى المنزل المتهالك الذي يقطن فيه هو ومجموعة من أطفال الشوارع، دخل على أطراف أصابعه حتى لا يشعر به أحد، لينام منزويًا في أحد الأركان ريثما يطلع النهار، فربما وجد حجة قوية تخلصه من العقاب.

ما إن دلف الولد إلى مدخل البيت حتى شعر بعدم  وجود رفقائه، ربما ما زالوا يجوبون الشوارع باحثين عن بضعة قروش، تسد فوهة "الغول" وتكف عنهم الأذى.

فجأة.. سمع صوت تأوهات "فرحة"، دخل بسرعة يبحث عنها ليعرف ما حل بها، قبل أن يصل إليها. وعلى مدخل إحدى الغرف تسمرت أقدامه وجحظت عيناه حين رأى "الغول" جاثمًا فوقها كحيوان منقض على فريسته، بلا رحمة ينهش فيها، غير عابئ بنشيجها المكتوم، تراجع خطوات حتى لا يراه "الغول".

أخذ يتابع المشهد، اشتعلت الرغبة في جسده واشتعلت النيران في صدره.

كيف يترك هذا الكلب يلتهم قطعة من اللحم -هو أحق بها منه- للمرة الثانية في اليوم نفسه!

هذه المرة الكلب ليس أكثر منه جوعًا؛ فهو يلتهم ما يشاء كل يوم.

ولكن "فرحة" هذه الحزينة المكسورة المجبرة على ممارسة التسول كل يوم، منذ أيَّام أحضرها "الغول" وضمها لفريق البائسين السجناء الأحرار لديه. هو يشتهيها ولكنه يمنع نفسه من إجبارها على رغبته؛ فرغم بؤسها ووجودها معهم ومشاركتها لهم في ضياع المستقبل وانكسار آمالهم، إلا أنه كان يشعر أنها مختلفة، كان يتأملها من بعيد، كيف تبكي، كيف تضحك، كيف تنمو وتتفتح كل يوم.

قطفها "الغول" وطارت فرحة من يده، كما طارت الطائرة الورقية من الطفل في الحديقة.

فكر في الانقضاض على "الغول"، ولكنه ظل ثابتًا في مكانه، حاول الصراخ ولكن صوته لم يتعدّ كونه فكرة مسجونة بداخله.

تمنى أن يبكي ويبكي، لكن الدموع ضنت بنفسها عليه وبقيت أحداقه جافة.

نكس رأسه وتذكَّر طفل الحديقة، وكيف كان يبكي ويصرخ حين طارت فرحته، وتذكَّر أيضًا أنه طفل بائس تافه!

رفع رأسه ودخل على "الغول" الذي انتفض واقفًا متسائلًا:

-       ماذا حدث؟!

رسم الولد التوتر على وجهه متجاهلًا "فرحة" التي تحاول لملمة تبعثرها من على الأرض، وقال للغول:

-       الصندوق وقع في النيل وأنا أركب المعدية في طريقي إلى هنا، حاولت القفز وراءه، ولكن الناس منعوني.

تنفس "الغول" الصعداء وقال وهو يشيح بيده له ليغادر:

-       "وقع.. وقع.. في ستين داهية.. وقَّعت قلبي".