«هي والسراب» قصة قصيرة للكاتب محمود فهمي

محمود فهمي
محمود فهمي

وعلى غير عادتها. هي لم تبطئ في الرد، وتركت ردا موجزا كعادتها. أن تكون شحيحة في ردودها. على ذلك الغريب الذي يدق بابها ويلتقط المعاني من بين براثن ردودها...لم تكن تدري ٱن الرد الموجز سوف يتبعه أحاديث وأحاديث مطولة...وكان هو يطرق بابها بحذر كأنه باب زجاجي يخاف أن يتهشم قبل أن يلقي عليها التحية.

سمعت هي دقات الباب كأنها دقات مطر متقطع يحنو على بابها. فتحت بابها وهي متوجسة من ذلك الغريب الذي تسلل إلى فكرها وعقلها قبل أن ترد عليه السلام... رأته كعصفور هارب من أعاصير ومطر وبرد الشتاء. يريد أن تمنحه هي الدفء .

ترددت هي كثيرا من ذلك الغريب بوقت مجيئه بزمن ووقت لا يبدو جيدا بالنسبة لها ماذا عساها أن تفعل وهي بقرارة نفسها وكينونتها ألا تفعل.. ولكن شيئا ما مختبئ بداخلها ظهر فجأة وتمالكت هي كل قواها الكامنة من خلاصة تجاربها في الحياة وعصارة فكرها أن تكتشف سبر أغوار ذلك الغريب. وما عساه أن يفعل وكأنها قبلت تحدي كامنا في عقلها أن تكتشف المجهول وتبحر على شاطئه دون أن تغرق في يمه فهي كعادتها عنيدة تهوى المغامرة والتحدي .

أرمقته  بنظرة خاطفة في عينيه اختصرت فيها كل مسافات زمن غابر يسكن أحداقه. لم تطل النظر هي ولكنها تباطأت بعض الشيء لترى تقاسيم وجهه فهو يبدو في مطالع الأربعين من عمره ولكنها استعادت بعقلها ذاكرة قد مضت وكأن هذا الوجه حفر بعقلها الباطن منذ زمن وهي لا تكتشف ملامح وجه، بل إنها تستعيد رويدا رويدا، ملامحه وكأن غيمة تمر على وجه وتتلاشى.مع إنها كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة والقاسية برودته شعرت هي بدفء غريب ينتشر بأوصالها كدفء موقدها الذي  تلازمه دوما لتستأنس بدفئه وتسامر وحدتها النفسية برغم  كل الضجيج الذي يسكن أعماقها .

و كان القمر فيها بكامل استدارته يرسل أشعته الفضية على نوافذ قلبها ويغرس سهامه برفق ويمضي.وكأنه يزيل غبار سنين مضت ويغزل بخيوط أشعته أنسجة جديدة. لم تقف هي طويلاً حيال تلك التطورات السريعة والمتلاحقة وتظاهرت أنها لم تكترث كعادتها. ولكن ثمة أشياء تغيرت هزت أرجاء عرشها لملمت ما تبقى منها وردت عليه التحية.

كانت تبدو في الثلاثين من عمرها إلا أن ضوء القمر مع بريق عيناها وشعرها الذهبي المتدلي على وجنتيها سرق من عمرها عشر سنوات.فبدت شابة يافعة في أوج جمالها .وكأن جمالها لا يقل روعة عن جمال تلك الليلة المفعمة بروائح الشتاء العطرة بل أستعار الشتاء رائحته منها كما استعار القمر ضوءه من بريق عيناها.بينما هو كان غارقا في التفكير والاندهاش وكأنه انتقل عشرين عاما إلى الوراء بشروده في وجهها المتناثر عليه ضوء القمر وأصبحت هي والحلم الذي كثيرا ما أتيا إليه في يقظته وغفلته يتصارعان بداخله. كأنه كان أتيا من منفي بعيد حيث كان الزمان لا يعره وقته ولا خارطة مكانه وإذ به يستنشق هواء وطنه ويتحسس مكانه.

 كانت لحظة فارقة بحياته أن يرى حلمه واقعا بين يديه. اكتفي بالصمت الغارق في جوارحه والقاطن في شرايينه والقابع في سنواته. ولم يحرك سكونه سوى يد حانية تمتد إلى يديه وشعر أنه الٱن يغرق في يم كثير هو حاول الإبحار إليه دون جدوى غير أن شعور الآن بسعادة غامرة تجتاح كل أوصاله وتأكل كل سنين منفاه ويأخذه الحنين عمدا يفتت كل بقايا الفراق يقتل كل الآهات الساكنة في الأعماق وكأنة الٱن بلحظة ميلاد جديدة تولد فيها كل الأمنيات .وتغادر فيها كل التعاسات العابثة على ضفاف حياته حقا إنها مخاض جديد جعل من حلمه حقيقة ملموسة.

استحضر هو صورتها وهو مغمض العينين وكأنها لوحة أبدع فيها فنان وأعطى عصارة فكره وجل خبراته كأنها وجهاً سرياليا آت من زمن قديم به رائحة الطبيعة الخلابة وعبق التاريخ نائم على جبينها يسرد ٱنهار حب وشلالات عشق تنجرف من عينيها وسلاسل من حرير هندي تنساب من جدائل شعرها وغابات خوخ تزين خديها .

لا بل كانت غابات الخوخ تتزين بخديها.هي لم تبق كامنة كعادتها وصافحته بحرارة الاشتياق. وارتمت بين أحضانه كأنها ترمي كتلة لهيب في ماء بارد وتطفئ نار جسد أنهكه الفراق .ما زالت زخات المطر تتساقط علي أوراق شجرة التوت العتيقة الذي شهدت أول لقاء لهما قبل عقدين من تلك اللحظة. وتصدر أوراقها صوتا ينتبها هما إليه فينطلقان بنفس الوهلة في صمت مسرعين إليها يعانقانها .. وتتشابك الأيدي من جديد ويعلنان التحدي وكأنها لحظة انبعاث ميلاد جديد.

...ولكن إحساس ما مرير يجول هو بخاطره الآن لماذا كان الرحيل ولما كان اللقاء وما بين الرحيل واللقاء تراهات أحلام مضت وشجرة توت عاندت أن تبقى. برغم كل جبروت الطبيعة أن تقتلع جذورها وان تستمر في تقديم ثمرها لكل بائس أو جائع يمر بها أو يحتمي تحت ظلالها الفسيح وتحتضنه من جفاء وتغيرات طبيعة حادة من لفحة حرارة شديدة الوطيس .

لمَ الفراق سرق منا كل سنين العمر لما لم نقاوم .لما ظل هذا الحب لم يسع أحلامنا. تساؤلات وتساؤلات وأفكار مزدحمة. هل كنا أهون من شجر التوت أم إنها قاومت من أجل أن تشهد لقاءنا من جديد ،!!!كانت لحظات قاسية جدا مرت بطيئة رغم  سرعة أحداثها المطردة والمتوالية وكأن تلك اللحظات اختزلت عصارات تلك السنون المنصرمة وما فيها من ألم وشوق وجفاء وعتاب، استسلمت هي لدموعها وكأنها تنفض غبار سنوات عجاف سكنت أرماق جسدها ارتتعت في فكرها وأسلمت نفسها بطواعية وبذهن حاضر ونفس صافية وبأسارير هادئة لتلك اللحظات؛ وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها. تخلت هي عن صلابتها وعنادها على غير عاداتها؛

كانت تشعر وكأنها تائهة بصحراء مترامية الأطراف تنجذب إلي السراب وكأنه فردوسها المفقود تتأمل أشياءها المبعثرة على حبات رمل لا تنتهي .تراقب ضوضاء داخلها تصنع فوضى عارمة في بحار الصمت الموجعة

..مرت تلك اللحظات  وكأنها دهر عات أت من خلف الذكريات المتوالية والمتلاحقة وكأنها شريط سينمائي  يدق ناقوس السنوات النائمة، وبرفق هو يمسك معصم يدها ويتجها نحو شاطئ البحيرة التي تلوح لهم بشاطئها الذهبي عندما تنثر عليها الشمس بصيص أشعتها المختفية خلف غيوم تلك الليلة ..وكأن الأمل يولد من جديد بولادة متعثرة المشهد كان لا يقل روعة وجمالا عن جمال فستانها الفضي المرصع بالزمرد؛ كانت وظلت تحتفظ بغموضها حتى بلحظات هذا اللقاء لم تكن تعي أن ذلك الغموض كان سببا للابتعاد والفراق الذي أكل أجمل سنوات العمر بينهما وكأنها مازالت لا تعي أن المصارحة والمكاشفة تزيل أتربة وغبار الشك

.وكانت تلك الخيوط ما هي إلا لملامح ظل واقع تعيش فيه تبحر فيه ولكن البحر دائما هائج تتلاحق أمواجه بشدة عاتية كسرعة أحداث حياتها الكامنة في ذاتها فقط . كانت تبحث دائما عن مأوى لخزائن أسرارها الدفينة . وكانت تلقي بأحلامها ومكنون سريرتها بذلك الصندوق الحديدي تباعا وهي توقن بأن أحدا ما لا يستطيع فك شفراته أو حتى الوصول إليه .نمت علاقة لا تستطيع هي وصفها بينها وبين صندوقها أهو ارتياح أو هروب أم أمل أو  صديق وفي لا يشي بأسرار ذاتها .استيقظت هي من غفلتها على صوت رياح عاتية تعصف على جدار بابها،

رسمت على وجهها ابتسامة زائفة وعادت لتكمل ليلتها في براثن وحدتها.