أيمن موسى يكتب: روسيا تخلع «جلباب» الغرب للأبد

أيمن موسى
أيمن موسى

■ بقلم: أيمن موسى

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق حاول الغرب أن يضع روسيا في نطاق محدود وهو مجرد إنتاج المحروقات من النفط والغاز والفحم إلى أن أصبحت روسيا تسمى لدى الغرب «محطة البنزين»، وفى  هذه الفترة شهدنا تراجعا ملموسا فى قدرات الدولة الروسية فى مختلف قطاعات الإنتاج وأصبحت تعتمد على الغرب فى توفير الكثير من المنتجات، وفى نفس الوقت ورغم أحلام روسيا بتعزيز التقارب والشراكة مع الغرب إلا أن   الأخير كان   يحجم عن إمداد الدولة الروسية بالتكنولوجيا العالية ويمعن فى  تأصيل دورها كمجرد محطة بنزين للغرب مع تقويض دورها على الساحة الدولية والإقليمية.

وبطبيعة الحال أدى إضعاف الدولة الروسية وتعزيز اعتمادها على الغرب إلى تراجع هيبتها ودورها فى مختلف المجالات وهو ما أدى ليس فقط إلى ارتماء الكثير من جيرانها وشركائها السابقين فى أحضان الغرب بل وتجرأ العديد من الدول عليها لمجرد إرضاء الغرب، واستمر هذا الوضع حتى وصل فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم ووقتها قرر أنه لا يمكن الرضاء لروسيا بوضع كهذا وشرع فى تنفيذ مجموعة من السياسات لاستعادة قوة وهيبة ومكانة الدولة الروسية، كما أدرك الرئيس الروسى أن الهدف الأسمى للغرب هو إضعاف الدولة الروسية إلى المستوى الذى يمكن معه حتى تفتيتها إلى دويلات صغيرة وذلك بطبيعة الحال بعد اقتلاع القدرات النووية منها مثلما فعل مع بقية دول الاتحاد السوفيتى السابق التى خلف وعوده لها بضخ استثمارات كبيرة بها لتنقلها إلى مستقبل أفضل ويجعلها فى مصاف الدول الغربية من حيث التقدم.

◄ اتجاهات الإحلال

من هنا قرر الرئيس الروسى الشاب فلاديمير بوتين إعادة ترتيب البيت الداخلى وفقال لمجموعة دقيقة جدا من السياسات التى تخضع للتطوير الدائم وفقا لمقتضيات الأحداث وتطورها، وكان من ضمن هذه السياسات تبرز سياسة محددة أعتقد أنها الأهم والتى ينبغى أن نتعلم منها فى الظروف التى تمر بها مصر والمنطقة فى الوقت الراهن وهى سياسة إحلال المنتج الوطنى محل المنتج المستورد وإن كنت أود فى هذا المقام أن ألفت النظر إلى أن روسيا لم تمنع الاستيراد ولكنها عمدت إلى تطوير المنتج المحلى ليصبح على مستوى المنتج المستورد أو يفوق عنه فى الكثير من الأحيان بما يجعل من غير المجدى للمواطن شراء المستورد فى ظل وجود بديل محلى أكثر قوة وكفاءة ، وفى نفس الوقت ساعد ذلك الدولة الروسية على مضاعفة صادراتها ومزاحمة الدول الغربية فى أسواق كانت تعتقد بدوام نفوذها فيها إلى ما لا نهاية.

الحقيقة أنه لو رجعنا لسنوات طويلة للوراء فى مرحلة التسعينيات وبداية العقد الأول من القرن الأول من الألفية الجديدة سنجد أن السوق الروسية للأسف الشديد كانت مشبعة بالمنتجات الأجنبية فى كافة المجالات وكان المنتج المحلى يتسم برداءة شديد للغاية، وكانت روسيا تعتمد على المنتج الأجنبى فى غالبية احتياجاتها بما فى ذلك: صناعة الماكينات بنسبة 90% والصناعات الإلكترونية بنسبة 93% والصناعات الخفيفة بنسبة 90% والصناعات الثقيلة بنسبة 80% والصناعات الدوائية بنسبة تزيد على 80% والسيارات بنسبة تصل 95%.

وقد يعتقد البعض أن روسيا بدأت مسيرة الاعتماد على المنتج المحلى وتنفيذ سياسة تعويض المستورد فى أعقاب أحداث القرم فى عام 2014 ولكن الحقيقة هى أن روسيا بدأت سياسات معلنة وغير معلنة فى مجال تعويض الاستيراد منذ عام 2000 عندما أعلن الرئيس الروسى عن إنشاء مؤسسات روسية جديدة وعملاقة مثل مؤسسة «روس أتوم» التى أصبحت اليوم أكبر مؤسسة فى مجال المشروعات النووية على المستوى العالمى ومؤسسة «روس نانو» للمشروعات التكنولوجية التى تغذى اليوم مختلف قطاعات الصناعة فى الدولة الروسية وفى الخارج أيضاً.

وقد يعتقد البعض أيضاً أن موضوع استعاضة الواردات يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها، بل الأمر يتطلب جهودا مضنية ورؤية وإرادة سياسية قوية وهو ما أدركته روسيا من البداية لذلك قررت الاعتماد على التجارب السابقة للدول الأخرى فى ذات المجال والتى تقوم على أساس عدة محاور ومراحل بما فى ذلك تحديد القطاعات المنتجة بالفعل والتى تعانى مشاكل سواء فى الإنتاج أو تطويره وتوجيه الاستثمارات اللازمة لهذه القطاعات من أجل تعزيز قدراتها وتطوير منتجاتها بما يلبى الطلب المحلى مع التطلع للمنافسة فى الأسواق العالمية فى المستقبل.

والقيادة الروسية برئاسة فلاديمير بوتين كانت تدرك من البداية أن الغرب سوف يعرقل جهود الدولة الروسية فى مجال تحديث الإنتاج لذلك آثرت أن تكون التحركات مدروسة وغير معلنة مع عدم التوقف عن الاستيراد فى المراحل الأولى لمسيرة الإحلال، وعمدت فى غضون ذلك على أن تغذى الواردات مستلزمات الإنتاج المحلى وتطويره، وفى نفس الوقت تقديم حوافز كبيرة من أجل اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وفتح خطوط إنتاج لبعض المنتجات الأجنبية فى إطار نقل التكنولوجيا الحديثة واكتساب الخبرات التى تساعد فى تطوير المنتج المحلي.

◄ استرشاد الطريق

اعتمدت سياسة الإحلال على عدة محاورة رئيسية بما فى ذلك، تحديد القطاعات ذات الأولوية فى إنتاج السلع الضرورية والمواد الغذائية والصناعات الثقيلة والصناعات التعدينية والتحويلية، ورفع حدود الرسوم الجمركية على الواردات وتقديم حوافز مختلفة للمنتجين المحليين بما فى ذلك فى مجال الضرائب وكذلك مساهمة الدولة فى عجلات الإنتاج والتطوير من خلال ضخ الاستثمارات لتطوير القطاعات المختلفة، وعدم اللجوء للسياسات الحمائية إلا فى الظروف القصوى وعند الحاجة فقط لحماية قطاعات لها أهمية استراتيجية للدولة، وتشجيع الإنتاج المشترك كوسيلة لاجتذاب التكنولوجيا الأجنبية وإكساب العمالة المحلية مهارات مختلفة فى مجال الإنتاج والإبداع، وعند تحقيق معدل معين من إجمالى الناتج القومى العمل على ضخ جانب من المكاسب من أجل تطوير ورفع كفاءة القوى العاملة وتطوير مناحى الإنتاج المختلفة وصولا للمنتج المحلى الذى يقوم على عناصر إنتاج ودورة تكنولوجيا مصنعة بشكل كامل محلياً، وتوظيف قدرات الدولة فى مجال البحث العلمى لمساعدة مختلف مناحى الإنتاج على التطوير والتجديد.

◄ الاستقلال التكنولوجي

وأثبتت هذه السياسة جدواها عندما أصبحت روسيا فى مواجهة الغرب الذى لم يتردد فى عام 2014 فى فرض العقوبات عليها فى مختلف المجالات حيث قابلت روسيا هذه العقوبات بإعلان سياستها الجديدة وصولا لما أسمته «الاستقلال التكنولوجى» وبدأت فى تنفيذ مجموعة متكاملة من برامج التحديث وتطوير الإنتاج بحيث تشمل فى مرحلتها الأولى 1500 مشروع طموح فى مجالات الزراعة والأدوية والمعدات الطبية وصناعة الماكينات والسيارات وغيرها من المجالات الحيوية للدولة.

ومن يمعن النظر فى هذه المرحلة سوف يكتشف أن مسيرة «الإحلال - أو الاستعاضة بالمنتج الوطنى عن المستورد» قد بدأت تكتسب بعدا سياسيا أكثر منه اقتصاديا وأصبح الشعار من أهم شعارات الوطنية بالنسبة للمواطن العادى الذى بطبيعة الحال ما كان ليشعر بأهمية هذه السياسة ما لم تنعكس عليه وعلى مستوى معيشته بشكل مباشر سواء من ناحية توفير فرص عمل أكثر وبعائد أفضل أو من خلال توفير النفقات التى يتحملها المواطن لشراء المنتج المستورد وصيانته.

◄ الانغلاق ليس الحل

شهد التاريخ عدة تجارب فى مجال تطوير المنتج المحلى والاستغناء عن الاستيراد حيث اعتمد البعض منها على سياسة الانغلاق على النفس إلا أن روسيا فضلت خوض معترك آخر يقوم على أساس تطوير المنتج المحلى وربما الحد من استيراد المنتجات التى إما لا حاجة ماسة لها أو إمكانية الاستعاضة عنها بالمنتج المحلى ، مع تطوير الشراكات الخارجية سواء بفتح خطوط إنتاج ومشروعات مشتركة داخل روسيا أو خارجها ، واعتمدت فى تحقيقها لهذه الاستراتيجية على مجموعة من الأدوات سواء فى إطار مجموعة بريكس أو شنغهاى للتعاون أو حتى على المستوى الثنائى مثل مشروع المنطقة الصناعية الروسية فى شرق قناة السويس وهو المشروع الأول من نوعه الذى تنفذه روسيا خارج أراضيها والذى تعتبره أنبوب اختبار لتنفيذ مشروعات مشابهة بما يساعدها فى الخروج إلى الأسواق الخارجية بروح وقوة جديدتين.

وإذا كانت روسيا قد قررت أن أسلوب الانغلاق على الذات ليس هو الأسلوب الأفضل أو الذى يناسبها فقد كان لدى الغرب وجهة نظر مخالفة حيث حاول أن يدفع روسيا نحو الانغلاق من خلال أدواته العقابية التى كانت تهدف إلى خلق طوق من العزلة على هذه الدولة وحرمانها من التعاون مع العالم الخارجى إلا أن هذه السياسة وإن كانت تصلح فى ظروف معينة فى الماضى فهى اليوم لم تعد تصلح لظروف العصر الجديد خاصة أنه بدا أن سياسة الإحلال قد بدأت تؤتى ثمارها وأن روسيا بدأت تنتج أشياء يحتاج إليها الآخرون كما أن سوقها يغرى الكثير من المنتجين فى الشرق والغرب والجنوب والشمال.

◄ النظام العالمي الجديد

عندما شرع الغرب فى فرض العقوبات على روسيا كان يهدف إلى خنق الاقتصاد الروسى وبدا أنه أخطأ فى كافة حساباته حيث كانت روسيا قد بدأت بشكل مبكر فى فك ارتباطها أو بالأحرى اعتمادها على الغرب فى الكثير من المجالات حيث تشير التقديرات الرسمية فى روسيا إلى أن الدولة الروسية قد نجحت فى تحقيق الاكتفاء الذاتى فى الكثير من المجالات بما فى ذلك فى مجال الحبوب بنسبة 185.5% والزيوت 221.1% والسمك 153.2% والسكر 103.2% واللحوم 101.3% ومنتجات الألبأن 85.6% ونجحت أيضاً فى الوصول لنسبة تفوق 80% فى بعض أنواع الخضراوات والفواكه، كما نجحت روسيا فى تعزيز تعاونها مع قوى تكنولوجية عديدة مثل الصين والهند وغيرهما من الدول لكسر حلقة الاحتكار الغربى للتكنولوجيا وتمكنت بالفعل من تحقيق إنجازات ملموسة فى هذا المجال وبصفة خاصة فى مجال الإلكترونيات وهو المجال الذى تعد روسيا أن تتبوأ مكانة عظيمة فيه فى غضون السنوات القليلة القادمة.

وبذلك يتضح أن الدولة الروسية حققت شوطا كبيرا فى مجال تحقيق الاكتفاء الذاتى فى المجالات التى تمس الاحتياجات الأساسية للمواطنين بما فى ذلك فى مجال المستحضرات الطبية والأدوية، بحيث يمكن القول إن برنامج تطوير هذا القطاع جعل روسيا واحدة من أهم دول العالم فى هذا المجال فى فترة لم تتعد العشرة أعوام فقط، كما قطعت شوطا لا بأس فيه فى المنتجات التى تحتاج إليها الأسواق الخارجية فى المجالات الصناعية المختلفة وإن كانت نجحت فى تبوّء مكانة كبيرة فى مجال الصناعات النووية والطيران والماكينات والأدوات الزراعية وغيرها من المجالات.

كل ذلك أظهر أن روسيا لم تعد تحتاج كثيرا للغرب وأنها أقامت ارتباطات جديدة فى مختلف أنحاء العالم تجعل دورها الإقليمى والدولى مطلوبين من جانب غالبية دول العالم التى أصبحت تعترف لها بوضع الدولة العظمى وبالتالى هناك طرح ملح على الساحة الدولية إما بضرورة إنشاء نظام عالمى جديد أو الاعتراف بوجود نظام عالمى جديد وإن كان يحتاج لأسس يتفق عليها لتحقيق العدالة والمساواة بين كافة دول العالم.

◄ الدروس المستفادة

ربما يواجه العالم العربى والإسلامى ظروفا مشابهة لحد ما مع الظروف الروسية من حيث إن الغرب يسعى بشتى الطرق بقيادة الولايات المتحدة للإبقاء عليهما فى فلك التبعية الغربية ومقاومة كافة اتجاهات الاستقلالية فى اتخاذ القرار وتبنى المواقف المتفردة التى تحقق المصلحة القومية فى المقام الأول وهى سياسة سعى الغرب دائما لتطبيقها مع روسيا إلا أنه واجه الفشل الذريع بعد أن قررت روسيا تعزيز الاعتماد على النفس فى مختلف مناحى الإنتاج وبصفة خاصة فى مجال المنتجات ذات الأولوية الأولى للسكان، كما أن روسيا لم تقرر الانغلاق على نفسها لتحقيق هذه الأهداف بل قررت توسيع دائرة التعاون والشراكة مع مختلف الدول وعدم التقليل من أهمية أية دولة أو طرف آخر وتعميق علاقاتها وتعاونها مع مختلف الدول على أساس الفائدة المشتركة، وهى إمكانية تتوفر بشكل كبير جدا للدول العربية التى يمكنها تحقيق نتائج جيدة جدا فى حال تكاملها مع بعضها البعض.

والحقيقة، أن الغرب كان يتابع مسيرة روسيا فى مجال تعزيز القدرات الإنتاجية الوطنية وحاول جاهدا بكافة الطرق عرقلة هذه المسيرة وهى ذات السياسة التى يحاول الغرب اتباعها مع مصر التى تسير بخطى ثابتة على طريق تعزيز الإنتاج الوطنى والاعتماد على الذات فى مختلف المجالات لذلك نجده يحاول خلق المشاكل والتشكيك فى السياسات المصرية على مختلف المحاور ولكن الإصرار على التمسك بالنهج الوطنى فى الاعتماد على الذات سيجبر الغرب على التسليم بقبول السياسات المصرية وإدراك أن مصر لا تبنى شخصية مستقلة ومنفردة تقوم فقط على أساس إرادتها الواعية والحرة بل إن هذا الفكر والبنيان ظل دائما راسخا فى وجدان الشعب المصرى ومطلبا مشتركا ما بين القيادة والشعب، فمصر ظلت دائما تمتلك شخصيتها المستقلة والمختلفة المتفردة ولن تتخلى عن هذا الاتجاه مهما كانت التحديات.